الجمعة 15 ذو الحِجّة 1446هـ 13 يونيو 2025
موقع كلمة الإخباري
سبايكر: يوم أسود في تاريخ العراق.. القصة الكاملة للمجزرة!
بغداد – كلمة الإخباري (خاص) – بقلم: رئيس التحرير
2025 / 06 / 12
0

في الثاني عشر من يونيو/ حزيران عام 2014، شهد العراق واحدة من أبشع المجازر في تاريخه الحديث، عندما قامت عصابات داعش الإرهابي بإعدام ما يتراوح بين (1.095 إلى 1.700) - وربما يفوق هذا العدد - من الطلاب العسكريين العراقيين بالقرب من تكريت. تُعتبر مجزرة سبايكر عملية إرهابية كبيرة جداً من حيث عدد الضحايا، وقد خلصت الأمم المتحدة في تقريرها الصادر عام 2024 إلى أن المجزرة نُفّذت "بقصد الإبادة الجماعية" ضد المسلمين الشيعة في العراق.

هذه الجريمة البشعة لم تكن مجرد عمل إرهابي عابر، بل كانت جزءاً من استراتيجية ممنهجة لتنظيم داعش لإرهاب المجتمعات الشيعية وتدمير النسيج الاجتماعي العراقي، وقد تركت آثاراً عميقة على المجتمع العراقي والمنطقة بأسرها لا تزال مستمرة حتى اليوم.

  تفاصيل المجزرة: ثلاثة أيام من الرعب والدمار  

وقعت مجزرة سبايكر بين 12- 14 يونيو/ حزيران 2014 في قاعدة سبايكر الجوية (أكاديمية تكريت الجوية سابقاً) الواقعة على بُعد 170 كيلومتراً شمال بغداد و10 كيلومترات شمال مدينة تكريت في محافظة صلاح الدين. كانت القاعدة تضم ما بين (4 آلاف إلى 11 ألف) طالب عسكري وقت الهجوم، معظمهم من الشباب الشيعة الذين يتدرّبون في سلاح الطيران العراقي.

بدأت الأحداث المأساوية في 11 يونيو/ حزيران، عندما سيطر تنظيم داعش على مدينة تكريت والمناطق المحيطة بها كجزء من هجومه الكاسح على شمال العراق. في اليوم التالي، أمر كبار الضباط في القاعدة حوالي (3 آلاف) طالب عسكري بتغيير ملابسهم إلى مدنية ومغادرة القاعدة تحت ذريعة "إجازة لمدة 15 يوماً للعودة إلى منازلهم". لكن هذا الأمر كان فخاً مميتاً، إذ اعترض مقاتلو داعش الطلاب الفارّين على الطرق المؤدية من القاعدة ونقلوهم بالشاحنات إلى مجمع القصور الرئاسية في تكريت (قصور صدام حسين السابقة).

تم تنفيذ عمليات الإعدام الجماعي بطريقة منهجية ومخططة مسبقاً. فصل عناصر داعش أولاً المسلمين السنة عن الشيعة وغير المسلمين، ثم احتجزوا الضحايا لساعات في مجمع القصور الرئاسية قبل نقلهم إلى مواقع متعددة محددة مسبقاً للإعدام. استخدم الجناة بنادق آلية خفيفة وبنادق هجومية في عمليات الإعدام الجماعي، كما تم ضرب بعض الضحايا حتى الموت. تم دفن الجثث في مقابر جماعية أو إلقاؤها في نهر دجلة.


  السياق التاريخي  

لم تحدث مجزرة سبايكر في فراغ، بل كانت نتيجة لعاصفة مثالية من الفشل السياسي والعسكري والطائفي الذي عصف بالعراق بين 2011-2014. انهار الجيش العراقي بشكل غريب جداً أمام تقدم داعش، حيث فر (60 ألف) جندي عراقي أمام 1.500 مقاتل من داعش عند سقوط الموصل!.

تصاعد تنظيم داعش من بقايا تنظيم القاعدة في العراق الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي عام 2004. بعد توسعه إلى سوريا عام 2013 في خضم الحرب الأهلية السورية، قطعت القاعدة علاقاتها رسمياً مع داعش في فبراير/ شباط 2014؛ بسبب عصيان التنظيم ووحشيته المفرطة. في يناير/ كانون الأول 2014، استولى داعش على الفلوجة وأجزاء من الرمادي، معلناً عودته كقوة رئيسية في العراق.

سياسات خاطئة من الحكومات السابقة خلقت الظروف المثالية لصعود داعش. بعد استبدال منهجي للقادة العسكريين الأكفاء بضباط موالين سياسياً ولكن أقل كفاءة، هذه السياسات أدت إلى اندلاع احتجاجات في المحافظات ذات الأغلبية السنية عام 2013، حيث رأت المجتمعات السنية أنها تمر بحالة من "الإقصاء المنهجي" من الفرص السياسية والاقتصادية.

ظاهرة "الجنود الفضائيين" كانت إحدى أبرز مشاكل الجيش العراقي، حيث وُجدت وحدات على الورق بينما كانت قوتها الفعلية أقل بكثير. الفساد المنتشر قلل من الفعالية القتالية، وضعف القيادة وانخفاض الروح المعنوية. التدخل السياسي في المؤسسة العسكرية دمّر الهياكل المهنية التي أُسست خلال الوجود الأمريكي.

  قصص الرعب والنجاة  

نجا عدد قليل من الطلاب العسكريين من المجزرة، وقدّموا شهادات مؤثرة ومفصلة عما حدث. علي حسين كاظم (23 عاماً) هو أبرز الناجين الموثقين، حيث نجا بالتظاهر بالموت بعدما مرت رصاصة بجانب رأسه أثناء صف الإعدام. روى كاظم في تقرير مصور بارز لصحيفة نيويورك تايمز تفاصيل محنته التي استمرت 23 يوماً من المجزرة حتى لمّ شمله مع عائلته، بما في ذلك المساعدة التي قدمها له سكان محليون وفّروا له المأوى والمساعدة.

حسن خليل، ناجٍ آخر، هرب بالتظاهر بالموت تحت جثة أخرى والفرار ليلاً. شهد أن كبار الضباط أمروا الطلاب بمغادرة المعسكر بدعوى وجود "ممر آمن" تحرسه القبائل. قال: "ضباطنا الكبار هم السبب وراء عمليات القتل. أجبرونا على مغادرة سبايكر... لقد باعونا لداعش".

محمد مجول حمود (24 عاماً) ناجٍ ثالث تحدث لوكالة رويترز، وصف كيف نجا بإقناع مقاتلي داعش أنه مسلم سني بدوي من قبيلة شمر. شهد إعدام أخيه ومئات آخرين أثناء أسره لمدة (11 يوماً).

  التحقيقات الدولية والأدلة  

في يونيو/ حزيران 2024، نشر فريق التحقيق الأممي (يونيتاد) تقريراً مفصلاً خلص إلى أن المجزرة نُفّذت "بقصد إبادة جماعية" ضد المسلمين الشيعة في العراق**. أثبت التقرير أن الأعمال تشكل جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بموجب القانون الدولي، وحدد 20 شخصاً يتحملون أكبر قدر من المسؤولية عن المجزرة.

ساعد يونيتاد السلطات في استخراج (1.237) ضحية من (14) مقبرة جماعية وموقعين نهريين بين 2017-2023. اللجنة الدولية للأشخاص المفقودين قدمت دعماً تقنياً لعمليات التنقيب في المقابر الجماعية وتحديد هوية الضحايا منذ 2016، وساعدت في استخراج رفات أكثر من 1.000 ضحية من مقابر جماعية متعددة، حيث أسفر تحليل الحمض النووي عن أكثر من 1.000 عملية تحديد هوية.

الأدلة المكتشفة شملت مقابر جماعية متعددة حول مجمع القصور الرئاسية في تكريت، أدلة الطب الشرعي كعينات الحمض النووي وأدلة المقذوفات والملابس والمتعلقات الشخصية، صور الأقمار الصناعية التي وثقت حركة الضحايا ومواقع الدفن، والأسلحة المستخدمة في عمليات الإعدام. وثق تنظيم داعش المجزرة من خلال فيديوهات دعائية ونشر صوراً تُظهر أسر الضحايا ونقلهم وإعدامهم.

  الإجراءات القضائية والمحاكمات  

شهدت العراق سلسلة من المحاكمات المثيرة للجدل بخصوص مجزرة سبايكر. في يوليو/ تموز 2015، حُكم على (24 رجلاً) بالإعدام في محاكمة استمرت ساعتين فقط، لكن الحكم نُقض لاحقاً بسبب أخطاء إجرائية. في فبراير/ شباط 2016، أُدين (40 رجلاً) في جلسة استماع جماعية استمرت يوماً واحداً. في أغسطس/ آب 2016، أُعدم (36 رجلاً) شنقاً في سجن الناصرية.

استمرت المحاكمات في السنوات التالية: في 2021، حكمت محكمة الرصافة الجنائية في بغداد على (14 رجلاً) إضافياً بالإعدام، وفي 2024، حُكم على (27 سجيناً) بالإعدام لمشاركتهم في المجزرة. إجمالياً، صدر أكثر من (100) حكم إعدام، مع تنفيذ عشرات منها، لكن حوالي (500) مشتبه به يُقدر أنهم ما زالوا فارين.

  ردود الفعل   

أثارت مجزرة سبايكر ردود فعل واسعة محلياً وإقليمياً ودولياً. الحكومة العراقية قالت في البداية أن (57 عضواً) من حزب البعث شاركوا في المجزرة.

في 2 سبتمبر/ أيلول 2014، اقتحم أكثر من 100 من أفراد عائلات الضحايا البرلمان العراقي، وهاجموا الحراس الأمنيين ومطالبين بإجابات حول أقاربهم المفقودين، مما يسلط الضوء على فشل الحكومة في تقديم معلومات كافية.

أسست العائلات منظمة "سبايكر 1700" عام 2016 كمنظمة مجتمعية لتوثيق المجزرة والدعوة للعدالة الانتقالية. تمثل المنظمة عائلات ما يقدر بـ 2.018 ضحية وتضم (23 ممثلاً) عبر المحافظات العراقية الوسطى والجنوبية. تنظّم العائلات حجاً سنوياً إلى موقع المجزرة في تكريت كل 12 يونيو/ حزيران، بدعم من الحكومة للنقل والأمن.

عبرت الأمهات عن حزنهن العميق المستمر. نضال (61 عاماً)، والدة حسين (22 عاماً)، تقول: "في كل مرة أسمع فيها طرقاً على الباب، أتوقع أن أراه عائداً إلينا... كان يشتري الحلويات للأطفال في الحي وأراد أن نشتري بيتاً بدلاً من الإيجار. تمنيت أن أراه متزوجاً، أن أرى أطفاله يلعبون أمامي".


  التوثيق التاريخي  

تم إنشاء نصب تذكاري في واسط عام 2023 تكريماً لضحايا سبايكر، مستوحى من نصب الحرية في بغداد. كما يوجد نصب تذكاري في موقع المجزرة في مجمع القصور الرئاسية في تكريت يعرض ثلاث أمهات ينحن على مقبرة جماعية مع نماذج مقلدة لجماجم وعظام بشرية.

أُعلن 12 يونيو/ حزيران يوم الشهداء الوطني في العراق، وتقام احتفالات سنوية في بغداد وتكريت. الذكرى العاشرة في 2024 شهدت اهتماماً دولياً كبيراً، مع نشر (يونيتاد) لتقييمه القانوني الشامل.

أصبحت المجزرة مجسّدة في الذاكرة الجماعية العراقية كرمز لوحشية داعش والاستهداف الطائفي. هناك دعوات لإدراجها في المناهج التعليمية لمنع الفظائع المستقبلية وتعزيز المصالحة الوطنية.

مجزرة سبايكر تمثل نقطة تحول في التاريخ العراقي الحديث، مع تداعيات تمتد إلى ما هو أبعد من ضحاياها المباشرين. الفظيعة عمقت الانقسامات الطائفية بينما حفزت في الوقت نفسه الجهود الدولية من أجل العدالة والمساءلة. بعد عشر سنوات، تواصل المجزرة تشكيل السياسة العراقية والديناميكيات الإقليمية والمناهج الدولية لمنع الفظائع الجماعية.



التعليقات