الأحد 4 رَجب 1446هـ 5 يناير 2025
موقع كلمة الإخباري
مولات في كربلاء والنجف: هل تتحول المُدن المقدسة إلى مراكز للترفيه والتسوق؟!
خاص ـ كلمة | سراج علي
2024 / 12 / 31
0

في كلّ مرّة يثار فيها موضوع الحفاظ على حرمة المدن المقدّسة في العراق والتي تشمل (كربلاء والنجف وسامراء وبغداد)، يختلف فريقان إزاءه، فبينما يؤكّد الفريق الأول على وجوب احترام قدسيتها وعدم الإساءة لها على مستوى السلوك والمظهر العام، يعاند الفريق الآخر بأن ذلك يعارض "الحرية الشخصية"؛ ليرد الفريق الأوّل من المحافظين بالقول: إنّ أي إساءة تصدر بحق هذه المدن يعتبر تعدياً على حرمتها ويجب أن يعزّزَ القانون ذلك.

يفتح موقع (كلمة) هذا الملف من جديد؛ في ظلِّ ما رصده من شكاوى عدد كبير من أهالي هذه المُدن، الذين لم يرغبوا بالسكوت أمام ما وصفوه بـ "المدّ التشويهي والمتعدي" على حرمة مدنهم.

سلوكيات تنافي الفطرة والدين

يقولُ عدد من أهالي هذه المدن في أحاديث متفرقة لموقعنا: إنّ "قضية قدسية هذه المدن حق طبيعي لها، على اعتبار أنّها تضم الأضرحة الطاهرة لأئمة المسلمين من نسل النبي (ص)، وبالتالي لا يمكن السماحُ أبداً بأي سلوك ينافي الدين والفطرة الإنسانية ومكانة المدن المقدسة".

استمع (كلمة) لآراء سكّان هذه المدن الناقمين على ما أسموه بـ "التحضّر الرجعي"، والذين حذّروا مما يجري في المناطق التي تكثر فيها المولات التجارية، وهي في العادة تُبنى خارج مركز المدينة أو ما تُعرف بـ (المدينة القديمة).

اعتبرَ هؤلاء ومنهم عمّار نصر الله من أهالي مدينة كربلاء أنّ "مناطق المولات التجارية يُفترض أن تكون للتسوّق فقط أو الاستجمام والترويح عن النفس؛ ولكن ليس على حسابِ قدسية المدينة".

وتابع بأنّ "مدينةً بهذا الكبرياء والقدسية التي جللها الإمام الحسين (ع) بدمائه الزكيّة، لا يمكن أن نسمحَ للأطماع الدنيوية أن تسيء إليها".

حاول (كلمة) أن يعرف من نصر الله ماذا عنى بذلك. وقال: إنّ "التوسّع الكبير الذي يحصل خارج مركز المدينة وداخل الحدود الإدارية للمحافظة طبعاً، زاد من الحركة التجارية، حتى ازداد فيها عدد المولات التجارية إلى الحد الذي لا تجده في مدينة أخرى".

وأضاف بأنّ "الأمر لا يمثل حالة سلبية للمظهر العام، ولكنّ تعمّد إصدار السلوكيات السيئة والمظاهر غير اللائقة في هذه الأماكن بحجّة ابتعادها عن مركز المدينة القديمة أصبح ظاهرة سلبية ويجب أن نقف بوجهها"، مشدداً بأن "أرض كربلاء مقدسة في كل شبر منها" حسب قوله.

امتعاض شديد بسبب ما يجري

وهو في هذه الحالة التي يتأسف بها نصر الله على ما يحصل في مدينته، شاركه الرأي صديقه حيدر الجنابي قائلاً: إنّ "المدن المقدسة منذ سنوات طويلة وليس الآن؛ لها حرمتها وقدسيتها بين أهلها وكل من يزورها، فحتى على مستوى السائحين الأجانب يحترمون هذه الخصوصية جداً".

وأضاف بأنّ "الأمر تغيّر في السنوات الأخيرة، وصارَت المولات التجارية في مناطق عدة من المدينة أماكن للترفيه قبل التسوّق، واستعراض المفاتن المغرية وصيحات الموضة والسلوكيات السلبية".

وتابع القول: "أنا ابن هذه المدينة وصرت أخجل من الذهاب إلى المولات التجارية للتسوّق؛ بل صرت أخشى أن تنتقل عدوى ما تُفسّر خطأً بـ (الحرية الشخصية) على سلوكيات وطبع أبنائي".

وأكد بأن الحرية الشخصية تعني "أنك حرٌّ في نفسك ولكن ليس بالتعدي على الآخرين وخصوصياتهم وعلى خصوية مثل هذه المدن التي شرفها الله بالأئمة المعصومين".

وقبل ينهي الجنابي حديثه معنا، قال: "على مسؤولي المدينة وأبنائها ورجالها ونسائها أن لا يسمحوا بمثل هذه التصرفات السلبية، التي يظهر أنّها تزحف تدريجياً لتشمل كل المدينة، وبعدها يصبح من الصعب معالجتها".

بعدها انتقلنا بالحديث إلى مواطنين آخرين اشتكوا أيضاً من انتشار المظاهر السلبية في الأسواق والمولات التجارية، وقال الصحفي فراس الجبوري من أهالي النجف لـ (كلمة): إنّ "هذه الأماكن في الأساس تعتبر عامة ويزورها مختلف الناس، ولكن بالتأكيد يجب أن يتوحدوا حول فكرة مهمة وهي ضرورة احترام قدسية المدينة، سواء أكان من أهالي المدينة ذاتها أم من زائريها".

وتابعَ بأنّ "أكثر ما يؤلمنا أن يتخلّى الناس عن عقيدتهم واحترامهم لقدسية ومكانة مدينتهم، فهم يوصلون بذلك صورة سلبية إلى الآخر".

واعتبر الجبوري بأنّ هذا الأمر "بحاجة إلى التثقيف والتوعية من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنّ دور القانون ضروري لإحكام هذه الضابطة وعدم السماح بالتعدي على حرمة المدن المقدسة".

كما تحدّثت لنا السيّدة هيفاء المولى قائلةً: إنّ "الالتزام بالضوابط الدينية والأعراف والتقاليد ضروري سواء أكان في هذه الأماكن أو في غيرها"، مضيفةً بأنّ "الأشخاص من حقّهم أن يتسوّقوا حاجاتهم ويروّحوا عن أنفسهم؛ ولكن ليس على حساب المظهر والسلوك".

وأشارت إلى أنّ "احترام المدن المقدسة أمر واجب، ويجب أن يتربى عليه الصغار حتى يكبرون، وينقلوا صورة جميلة عن احترامهم لمدنهم" فهذا حسب قولها "يجعل السائحين أو الأشخاص الذين يزورون المدينة يحترمون ذلك ويتطبّعون بطبائع أهلها".

المولى لفتت إلى أن ما يزعجها أكثر أن تجد عوائل عراقية "تسمح لأبنائها وبناتها بأن يفعلوا ما يشاؤون ويرتدوا ما يشاؤون من الملابس، دون أنْ يعرّفوهم بواجباتهم تجاه مدنهم وخصوصاً المقدّسة منها".

في عصر التطور يتغير كل شيء!

أخذنا الحديث أكثر مع الفريق الأول الذي اشتكى من الظواهر السلبية التي تحصل داخل المدن المقدسة، أما الفريق الثاني الذي لا يعارض بالأساس فكرة "قدسية المدينة" ولكنّه يدعو "إلى عدم الضغط على الناس وجعلهم يختارون بأنفسهم ما يفعلون أو يرتدون من الملابس".

ويعارض المواطن حسام الأنباري ويقول لـ (كلمة): إنّ "المدن المقدسة لها احترامها ومكانتها في النفوس، ولكن عصرنا يتطوّر ويستلزم أن نتطور معه".

يعتقد الأنباري وهو شاب بعمر الـ (25 عاماً) أنّ "من حق الشباب أو الشابات أن يظهروا بالشكل الذي يريدون أن يكونوا عليه" مضيفاً أنّ "المظهر لا يحدّد شخصية الإنسان وثقافته ووعيه".

وهو ما تؤيّده السيّدة منال العنبكي، حيث قالت: إنّها "تزور مدينتا كربلاء والنجف للاستجمام مع عائلتها وتبضّع احتياجاتها من الملابس وغيرها، وتريد أن ترتدي ملابسها ذاتها التي ترتديها في محافظتها ديالى".

وتضيف العنبكي بأنّ "ذلك يجعلها مرتاحةً أكثر، أو أنها تبقى ما اعتادت عليه في مدينتها".

وحينما أخبرناها بأنّ هذه المدن مقدّسة ولها خصوصيتها الدينية وتختلف عن غيرها من المدن أجابت بأنّ "ذلك أمر صحيح ولا نختلف عليه" مستدركةً بأنّه "يبقى للإنسان حريته الشخصية في اختيار ما يفعله من سلوك أو المظهر الذي يكون عليه".

ولا تنكر العنبكي أن المدن المقدسة "لها روحية خاصة وتشعرها بالاطمئنان والسكينة" والأمر يعود طبعاً "إلى وجود الأضرحة الدينية وأهالي المدن المقدّسة الذين يتّسمون بأخلاق عالية وتعامل طيّب مع الزائرين والسائحين".

وعندما ذكرنا لها أنّ مثل هذه الروحية والقدسية تستلزم الاحترام والتبجيل قالت: "أفهم ذلك جيّداً وسأحرص عليه في المستقبل".

وبعد أن ودّعنا العنبكي وتمنينا لها زيارة موفقة وهانئة، التقينا السيّد يعقوب كشيّش هو محامٍ من أهالي بغداد وجاء لزيارة مدينة النجف، وطرحنا عليه الموضوع ذاته لنعرف رأيه الخاص.

يقول كشيّش: إنّ "من حق المدن المقدسة ومسؤوليها وأهلها أن يصرّوا على ضرورة احترام مدنهم وخصوصيتها الدينية، بل هو أمر مشرّع وفقاً للدستور الذي يضم قوانين خاصّة بها".

ويضيف بأنّ "هذه القوانين وُضعت في الأساس من أجل أن تبقى المدن المقدسة في كامل بهائها وجمالها وصورتها التي عُرفت بها على مستوى العالم"، مبيناً أنه من خلال القانون "يمكن تنبيه الناس إلى أخطائهم أو المخالفات التي يرتكبونها بقصد أو دون قصد تجاه المدن المقدسة، ولا يكونوا جزءاً من ثقافة التجهيل واعتماد الثقافات المستوردة التي تدعو إلى نسف الثوابت والمقدّسات بحجّة الحرية الشخصية".

ويلفت كشيّش إلى أنّ "صدور أي إساءات من قبل الأشخاص سواء أكان في عدم ارتداء الملابس اللائقة أو صدور سلوكيات منافية للدين والعرف في المدن المقدسة؛ فإنهم سيتعرّضون للعقوبة التي يستحقّونها، وإذا ما انتهوا عنها فيجب ردعهم".

ثقافات سيئة أخرى منها "الاستهلاك"

في حين يقدّم الخبير الاقتصادي عبد الإله عمر رأياً اقتصادياً حول بناء المولات التجارية، فبالوقت الذي أيّد أقوال المدافعين عن حرمة المدن المقدسة، رأى بأنّ "بناء هذه المولات تحمل سلبيات أخرى لا تتعلق بمظهر زائريها وتصرفاتهم فقط".

وأوضح عمر لـ (كلمة) بأنّ "بناء المولات التجارية لا يعني أمراً صحياً بالنسبة لاقتصاد البلد؛ بل يقدّم صورة على حركة الاستهلاك على حساب الإنتاج الاقتصادي بين سكان المدن".

ولفت إلى أن "هذه الأماكن التجارية تكاد تخلو تماماً من أي منتج أو صناعة وطنية؛ فهي تشجّع على استيراد المنتجات الأجنبية المختلفة، وهذا أمر سلبي في حدّ ذاته".

ويؤكد عمر بأننا لو أردنا أن نتحدث عن تطور أي مجتمع ووصوله إلى الديمقراطية الحقيقية فعليه أن "يبدأ من الصناعة والزراعة، وليس الاستهلاك"، مضيفاً بأنه "بمجرّد أن ينتعش هذان القطاعان الاقتصاديان المهمان حينها نصل إلى تحقيق الديمقراطية" حسب رأيه.

بتاريخ (25 يونيو/ تموز 2019) اتخذ مجلس القضاء الأعلى في العراق قرارات عدّة تخص الأماكن المقدسة.

وأكد المجلس وفقاً لبيان صدر عنه حينها، بأن على الجهات الأمنية في المحافظات والمدن التي تحتضن المراقد المقدسة "ضرورة بذل اقصى الجهود بالتعاون مع المحاكم لمحاسبة مرتكبي الجرائم التي تمسّ بحرمة الاماكن المقدسة".

وتنصّ المادة العاشرة من المبادئ الأساسية التي وردت في الباب الأول من الدستور العراقي أن "العتبات المقدسة والمقامات الدينية في العراق كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة بتأكيد وصيانة حرمتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرية فيها".

مطالبات بموقف رادع وقوي

إلا أن ناشطين مدنيين ومثقفين دعوا في أحاديث متفرّقة إلى "ضرورة أن يتوسّع التعريف أكثر بحرمة وقدسية هذه المدن، والذي يشمل محيطها وجغرافيتها بالكامل ولا يقتصر على بقعة معينة؛ كونها تحتضن مراقد الأئمة (ع)".

وشددوا بأن الدستور العراقي أكد "على محاسبة المسيئين؛ كونهم يتعرّضونَ بالإساءة المتعمّدة لأماكن لها حرمتها عند الله (سبحانه وتعالى) وترتبط ارتباطاً وثيقاً بعقيدة ووجدان المؤمنين" بحسب قولهم.

يذكر أن الحكومات المحلية والعتبات الدينية في المدن المقدسة سبق وأن اتخذت موقفاً من مظاهر التبرّج والسلوكيات السلبية والتعدي على حرمة المدن، ولكنّها تبقى مجرّد "كلام على ورق" إذا ما تم تنفيذها بالشكل الأسلم الذي لا يسمح بالإساءة للمدن المقدسة كما لا يؤدّي إلى التعدي على حقوق الناس.

وأصدر كل من مجلسي محافظة كربلاء ومحافظ النجف في السنوات الماضية، قانون قدسية المدينة، والذي جوبه حينها بردّة عنيفة من قبل المنظمات الحقوقية والناشطين وحتى المثقفين العراقيين.

ولكن مثل هذا القانون ووفقاً لما يعرضه المسؤولون المحليون في المدينتين "مهم جداً لتنبيه الناس إلى ما يستوجب منهم العمل به في المدن المقدسة، ويشمل بالدرجة الأولى احترام خصوصيتها الدينية وأضرحتها ومزاراتها".

وختاماً يمكن أن نعرف بأنّ الأغلبية ذهبوا إلى ضرورة تطبيق القانون واحترام خصوصية المدن المقدسة وعدم السماح بالتعدي عليها، بل والتأكيد على ردع كل من يخالف ذلك، خصوصاً مثالاً خلال الاحتفال بالمناسبات وأعياد رأس السنة الميلادية، التي شهدت في السنوات الماضية ظهور حالات سلبية بين عدد من الشباب والشبابات.

وكان المسؤول الديني في العتبة الحسينية الشيخ أحمد الصافي قد انتقد قبل عام، حالات الإساءة المتعمدة والمقصودة لحرمة مدينة كربلاء، وذلك خلال كلمته في مراسيم استبدال راية قبة المرقد الحسيني التي تقام بقدوم مراسيم عاشوراء.

وقال الصافي في كلمته: إنّه "في مدينة كربلاء المقدسة بدأت تظهر بعض مظاهر الفساد وإقامة الحفلات التي لا يمكن أن تكون متلائمة مع مجتمعنا في عاداته وتقاليده ولا مع ديننا وتوصيات أئمتنا ومراجعنا".

وأكد بأن "إنسانيتنا سوف نفقدها إذا استمرت هذه الأمور" بحسب قوله.

وتابع بأنه "في المناطق القريبة من مركز المدينة بل هي في مركزها تقام بعض الاحتفالات غير المقبولة، وصوت الموسيقى إلى مائتي متر من المرقد الشريف".

وطالب الشيخ الصافي حينها من الحكومة المحلية بأن "يضعوا حداً لهذه الأمور، كون أن هناك قانوناً يحفظ قدسية المدن المقدسة" مشدداً بأنه "لا توجد مدينة أقدس من مدينة كربلاء".

وختاماً يظهر لـ (كلمة) أن هناك امتعاضاً شديداً بين أهالي المدن المقدسة، كما أن أكثر ما يخشاه أهالي هذه المدن أن يتم السماح للمظاهر السلبية بالتدفّق والظهور أمام العلن، وبعدما تصبح أمراً عادياً تكون قد زحفت صوب أقرب نقطة من العتبات المقدسة.



التعليقات