لكلِّ قوة عسكرية موجودة اليوم على الأرض أهداف واستراتيجيات تريد تحقيقها؛ ولكنّ هذه الأهداف تختلف بين أن تكون نبيلةً ومشروعة، وأخرى تختبئ خلف عناوين برّاقة لتحقيق أهداف خاصة وأجندات مشبوهة.
قد تكون مثل هذه الصورة أكثر وضوحاً في حالات القوى العسكرية للدول التي احتلت مناطق خارج حدودها؛ لأغراض أوّلها التوسعة وفرض الهيمنة، ومن ثم الانقضاض على ثروات ومقدّرات البلدان والشعوب التي تحتلّها.
في حين أنّ أي قوة عسكرية تتشكّل من رحم الدولة ذاتها للدفاع عن كيانها وأبناء بلدها وخيراته ومقدّساته، فهذا ما يدخل ضمن خانة الدفاع عن النّفس ولا يمكن لأي جهة أخرى أن تعترضَ عليها، بل هو أمر تؤكّد عليه حتّى الديانات السماوية.
يمكن أن نعرفَ ذلك من خلال التجربة العراقية الأبرز للقرن الحادي والعشرين، وهو إصدار المرجعية الدينية العليا في النجف لـ (فتوى الدفاع الكفائي)، فهي فتوى للدفاع عن النفس ومواجهة الأخطار التي تمثّلت باحتلال ثلث الأراضي العراقية من قبل عصابات داعش الإرهابية؛ والتي أرادت شيئاً فشيئاً أن تقضمَ المزيدَ من الأراضي؛ مما يعني المزيد من الضحايا والخسائر، فكان لزاماً أن تصدر الفتوى التي كانت على حق في كل المقاييس وباعتراف الأعداء قبل الأصدقاء.
ولا يمكنُ لأي فتوى أن تصدر في وقت حساس وخطر مثل الذي مرّ به العراق إبان عام (2014)؛ إلا بوجود أشخاص مؤمنينَ بفكرة الدفاع عن الوطن والأهل والمقدّسات، وهكذا تولّدت الفرق والألوية القتالية النظامية لمواجهة العصابات الإرهابية المدعومة من دول كبرى وأجندات خارجية، وطبعاً حتى يكون مستوى الدفاع بمستوى فتوى المرجعية وتوصياتها الشرعية؛ وكذلك بمستوى أعلى من التهديدات المحيطة، كانت النتيجة قد حُسمت لصالح العراقيين بإعلان النصر على داعش عام (2017) وردّ خطرهم ليس على العراق وإنما حتى عن العالم أيضاً.
لم يكن تحقيق مثل هذا الانتصار الذي جاء بشارةَ خير للعراقيين والأحرار في العالم، وشكّل صدمة في الوقت ذاته لمراكز القوى العظمى؛ إلا من خلال تقديم التضحيات الكبيرة؛ وكانت فرقة العباس القتالية التي تشرف عليها العتبة العباسية واحدةً من تلك التشكيلات العسكرية النظامية التي لبّت نداء المرجعية العليا وقدّمت التضحيات الكبيرة لتحقيق "النصر المؤزّر".
ولكن يبدو من خلال تفحّص دقيق لخطوات هذه الفرقة، وبناءً على آراء العديد من الخبراء المحليين والعالميين أنها لم تكن في أي لحظة مرّت منذ تشكيلها وحتى اليوم أن "تعمل بمعزل عن الدولة وكذلك ضمن إطار (حشد العتبات المقدّسة)".
في مقالة نشرها الباحث والكاتب (مايكل نايتس) من معهد واشنطن للأبحاث باللغة الإنكليزية، شخصّ فيها مثل هذا الأمر.
يقول نايتس في مقالته التي نشرها موقع (المونيتور) الإخباري وترجمها موقع (كلمة): إن فرقة العباس القتالية أثبتت خلال فترة مقاتلة تنظيم داعش أنها "واحدة من أكثر قوات المتطوعين فعالية في العراق".
وأشار إلى أن "أحد الأسباب هو أن الفرقة تتلقى أوامرها باستمرار من سلطات القيادة الوطنية العراقية (رئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي وقيادة العمليات المشتركة)، وكذلك اتّباعها لأوامر المرجعية الدينية والعتبة (العباسية)".
كما يقول الخبير في الشؤون العسكرية علي عزّام لـ (كلمة): إنّ "فرقة العباس القتالية التي تشكّلت في أخطر الظروف الأمنية التي مرّت على العراق منذ العام (2003) أثبتت أنها قوة عراقية تعمل وفقاً للعقيدة الدينية والقانونية، ولذلك أصبحت ما عليه الآن".
وتابع بأنّ "الفرقة ستبرهن خلال السنوات المقبلة أنّ ولاءَها لوطنها ودفاعها عن الأرض والعرض والمقدّسات ليس مجرّد شعارات رفعتها إبان معاركها الشرسة التي خاضتها مع أولية الحشد الشعبي ضد عصابات داعش الإرهابية".
أول إنجاز عراقي يُحسب لفرقة العباس
يأخذنا الحديث أكثر عن الخطوات الجريئة للفرقة، التي قد تكون مغيّبة عن الكثيرين، ولكنّها مهمة على مستوى العالم، والتي تتمثل بدخولها على خطّ صناعة (الأسلحة الثقيلة)، ثم سنعرف ما هي رسالتها الحقيقية من ذلك.
يرى عزّام أنّه "أمر مشروع للغاية، ما دام يجري في إطار الدولة ورعايتها ووفقاً لضوابط قانونية وضمن استراتيجية واضحة وصريحة عملت عليها الفرقة".
كان العام (2017) وهو عام إعلان النصر على داعش، وقد شهد الإعلان عن طرح تصميم دبابة (كفيل 1/ kafil -1) من قبل قائد فرقة العباس القتالية الشيخ ميثم الزيدي.
و(الكفيل) الذي يعدّ أحد ألقاب شقيق الإمام الحسين (ع) أبي الفضل العباس (ع) وقائد عسكره في معركة الطف، هو الاسم المستخدم عراقياً لتطوير الدبابة السوفيتية (T - 55) ويشمل جميع أجزاء الدبابة من محرّك وهيكل جديد مختلف جذرياً عن أصل الدبابة السوفيتية.
ثم في تاريخ (13 يونيو/ حزيران 2019) أعلنت الفرقة القتالية عن إطلاق دبابة (الكفيل 1) بدعم من العتبة العباسية في مدينة كربلاء.
وجاء هذا الحدث متزامناً مع إحياء الذكرى الخامسة لانطلاق "فتوى الدفاع الكفائي" للمرجعية الدينية العليا في النجف.
كما يأتي أيضاً وفقاً لما رصده موقع (كلمة) بعد مرور (3 عقود) مضت على الدمار الذي تعرّض له قطاع تصنيع الأسلحة في البلد، بعد قرار الحاكم المدني (بول بريمر) بحلّ هيئة التصنيع العسكري عقب الغزو الأميركي للبلاد عام (2003).
وتحرّكت قيادة الفرقة القتالية أيضاً لإطلاق مشروعها الجديد بعد تصويت البرلمان العراقي عام (2019) على قانون جديد لتشكيل "هيئة التصنيع الحربي".
والمهم في ذلك أيضاً ووفقاً لهذا الحدث، فإنّ قيادة الفرقة حوّلت مجهودها العسكري والفني والتقني إلى مرحلة (التصنيع والتطوير)، وهو أمر هام جداً كما يرى المراقبون الذين أشاروا في أحاديث متفرقة لـ (كلمة) إلى "أهمية أن يتم استثمار مثل هذا الوقت ما بعد الانتصار على عصابات داعش الإرهابية في التوجّه الصحيح للتسلّح واستثمار الخبرات العراقية في دعم مثل هذه الصناعة الوطنية".
وقد صرّح في وقتها المقدّم مهند الطائي في الفرقة للصحفيين: إن "خلية الخبراء التكتيكية أزاحت الستار عن أول مشروع دبابة وطنية صُنعت بأيادٍ عراقية، ودعم من العتبة العباسية المقدسة، بعد ثلاثة عقود على توقّف مثل هذه الصناعات الثقيلة في العراق".
ولم يكن الإعلان عن طرح الدبابة الجديدة هو وحده مثار الاهتمام المحلي وحتى العالمي، بل طرح العديد من التساؤلات حينذاك عن الغاية من تصنيعها.
ولكن يبدو أنّ قائد الفرقة الشيخ ميثم الزيدي كان يعمل بذكاء وحنكة عسكرية، كشف عنها بدايةً خلال المعارك التي خاضتها الفرقة ضد العصابات الإرهابية؛ ومن ثم بالإقدام على مثل هذه الخطوة الجريئة.
جدل واسع من حول العالم!
وقد أثار إعلان الفرقة لإنتاج دبابات (الكفيل 1) جدلاً واسعاً بين متخوّف من تعاظم قوة "الفرقة القتالية وبين مرحّب بهذه الخطوة كونها تصبُّ في مصلحة المنظومة العسكرية الرسمية" كما كتبت ذلك صحيفة (العالم الجديد) في تقرير مفصّل لها نشرته بتاريخ (28 يناير/ كانون الثاني 2018).
ولكنّ قائد الفرقة الشيخ ميثم الزيدي ردّ بشكل صريح بأنّ "إنتاج الدبابة كانت بتفويض من حيدر العبادي (رئيس الوزراء آنذاك) وتحت أنظار وزارة الدفاع العراقية".
وأكّد الزيدي أن "الخطوة جرت بتفويض من القائد العام للقوات المسلحة، وتحت أنظار وزارة الدفاع، وأن الفرقة ستسلم الدبابة الى الوزارة كبادرة مشجعة لتنشيط الصناعات العسكرية"، عازياً أسباب ارتباط الفرقة برئيس الوزراء حيدر العبادي إلى "مهنيتها"، وكذلك من أجل "تحصينها إدارياً من محاولات مسؤولين بهيئة الحشد الشعبي عرقلة عملها".
وبحسب الزيدي فإن "إبداع الكفيل الذي أطلقته فرقة العباس القتالية، والذي يتضمن تطوير دبابة قديمة وإرجاعها الى الخدمة بعد أن انتهت صلاحية استخدامها، أثبت أن العقل العراقي خلّاق وخارق" وفقاً لقوله.
وقد هدفت هذه الخطوة إلى تحويل أسطول دبابات لواء الفرقة بالكامل من دبابات (T-55) السوفيتية العتيقة الى دبابة (kafil-1) العراقية الحديثة والمتطوّرة.
وحول تفسير البعض بأن الخطوة تجاوزٌ لصلاحيات الدولة، ردّ الزيدي بالقول: إن "فرقة العباس القتالية من القوات المرتبطة بالمؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية، وهذا واضح للجميع، وهي بعيدة كل البعد عن الجانب السياسي، وتلتزم حرفياً بتوجيهات القيادة العامة للقوات المسلحة (...)".
وقد عزا الزيدي الأمر إلى سببين: "أولهما قناعته بمهنية الفرقة وفاعليتها لما تتمتّع به الفرقة من قدرات وانضباط كبيرين، وثانيهما شعوره بضرورة الحفاظ عليها من محاولات البعض داخل هيئة الحشد الشعبي بعرقلة عملها لما أظهرته من منهج وطني، ليوفر لها الحصانة الادارية، ويفوت الفرصة على الجهات المتصيدة بالماء العكر".
الزيدي: لا تقلقوا أبداً!
الزيدي في معرض حديثه أيضاً أوضح أن "هذه الدبابة التي قمنا بتطويرها سيجري تقديمها هدية لوزارة الدفاع، لكي نثبت عملياً، أن بالإمكان تطوير التصنيع العسكري"، منوهاً "كما نملك لواءً مدرعاً كاملاً، وكله عائد للوزارة، كون الفرقة تابعة للمؤسسة العسكرية الرسمية، لذا على الحريصين عليها (المؤسسة الرسمية) أن لا يقلقوا إطلاقاً".
كما أكّد الزيدي في حينها أيضاً أن "هذا الإنجاز يَصب بدعم مؤسسات الدولة، وإسناد جهدها، وسيفتح الأبواب لتصنيع عسكري في العراق؛ لأنه لا يمكن لدولة فاقدة للتصنيع أو الاكتفاء الذاتي من ناحية السلاح والعتاد أن تحمي نفسها"، منبهاً "ليس هذا أول الإبداع، ولن نتوقف عند هذا الحد".
كما يكشفُ تصريح آخر للشيخ الزيدي في هذه المناسبة، عن "عقلية فذّة" بحسب تعبير الصحفي حيدر ماجد، حين قال الزيدي: إنّ "هذا المشروع بعملية تطوير دبابة تعود الى (الحرب العالمية)، وفرقة العباس (ع) القتالية تريد أن تعيد إلى هذه الدبابة الحياة من خلال تطويرها بشكل يتناسب مع ما موجود في الوقت الحالي".
يفسّر ماجد هذا الحديث قائلاً لـ (كلمة): إنّ "هناك مفارقة كبيرة فعلاً، ففي حين كانت الدبّابة الأولى (السوفيتية) قد اُستخدمت لصالح القوى العظمى في حروبها العبثية (الحرب العالمية)، يُعاد استخدامها الآن تحت اسم (الكفيل) في مواجهة أخطار تهدّد البشرية والأبرياء".
وأضاف "ربما عنى الزيدي أنّ إعادة الحياة لهذا السلاح الثقيل قد قصد بهِ أن يكون (السلاح) في صفِّ الدفاع عن المظلومين والأبرياء، وليسَ في صفّ الظالمين وأحلامهم التوسّعية".
ولفت ماجد "هنا تدخل العقيدة الإسلامية الشيعية حتى في هذه المفصلية، وهو يظهر كيف يتأثر ويتفاعل مثل هذا الكيان العسكري مع ثوابته الدينية". على حدّ قوله.
أما بالنسبةِ للقياسات المادية وماذا يمكن أن توفّر مثل هذه الخطوة الصناعية لخزينة الدولة، يقول الشيخ الزيدي: "نحن نتكلم عن دبابة تساوي قيمتها الدفترية اليوم صفراً ونحن نعمل على تطويرها وجعلها تنافس أخريات تقدّر قيمتها الدفترية ما يقارب الـ (4 ملايين دولار)". وهذا يعني أن زيادة معدّل إنتاج الفرقة من الأسلحة والمعدّات الحربية سيُسهم في خفض موازنة الاستيراد.
كما أشار إلى أن "دبابة (الكفيل 1) تعدّ الأكثر مدىً في منطقة الشرق الأوسط، بحسب ما بينه مختصون في هذا المجال وتأكيدهم على امتاز مثل هذا الإنجاز العراقي".
وأكّد الزيدي أن هذه الآلية "نُفّذت بأيادٍ عراقية، وكانت فكرة تصميمها وتنفيذها من قبل مركز البحث والتطوير في فرقة العباس القتالية، وجرى تزويدها بمنظومة إلكترونية وكهربائية بحيث يكون التحكّم فيها عن طريق شاشات توجد داخلها، وبهذا لا يحتاج المقاتل أن يكون مكشوفاً للخارج".
حديث الزيدي بالتأكيد يكشف أن هناك مراعاةً من قبلهم للجانب الإنساني في صناعة هذا المنجز، فهي بحسب قوله: "تستوعب شخصين لا أكثر، ويتم التحكّم فيها عن طريق (الشاشات)، وبالتالي لا يتعرّض المقاتل الذي يتحكّم بها لنيران العدو".
تطوّر آخر في التسليح والتطوير
ولم يمر على هذا الحدث المهم عراقياً سوى أربع سنوات، حتى أعلنت قيادة فرقة العبّاس القتالية عن تجربتها الجديدة، بضمّ دبابة (أسد بابل) التي تعدّ أشهر نسخة مطوّرة للدبابة السوفيتية (T - 72) إلى لواء الكفيل التابع للفرقة.
الدبابة هذه وفي ظهورها الأول الذي تحقق عبر الفرقة القتالية، شملت مميزات مثل المنظار الليزري (Laser rangefinder) للمدفع الرئيسي للدبابة وتحسين التدريع، كما تم تحسين قدرة الدبابة في محو أثر الجنازير من على الرمل والطين.
ووفقاً لبيان صدر عن الفرقة في أعقاب الإعلان عن دبابة (أسد بابل) خلال حفل أُقيم في صحراء الرزارة غربي كربلاء بتاريخ (16 يونيو/ حزيران 2023) فإن الدبابة السوفيتية "بدأ إنتاجها في العام (1989) وجرى التطوير عليها بعد استفادة هيئة التصنيع العسكري من دروب الحرب العراقية الإيرانية؛ لإجراء تحسينات على قدرات الدبابات الروسية".
وقد تمكّنت الفرقة من الحصول على الدبابة المهملة في مقابر السلاح التابعة لوزارة الدفاع العراقية، حيث تقبع آلاف القطع العسكرية غير المستغلة، وتمت عمليات تأهيلها وإعادتها للخدمة من جديد في معامل منشأة العطاء إحدى اهم منشآت التصنيع الحربي الجديدة في البلاد والتابعة لفرقة العباس القتالية.