الجمعة 15 ربيع الآخر 1446هـ 18 أكتوبر 2024
موقع كلمة الإخباري
الخارجون إلى النور .. رحلة فريد هويل من الإلحاد الى الإيمان
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 10 / 13
0

السير فريد هويل، أحد أبرز علماء الفيزياء الفلكية في القرن العشرين، ترك بصمة لا تُمحى في عالم العلوم بنظرياته الفريدة والمثيرة للجدل. إلى جانب إسهاماته العلمية الهامة، فإن ما ميز هويل كان تحوله الفكري من الإلحاد الصارم إلى الاعتراف بوجود خالق للكون. رحلته الفلسفية والفكرية من الإلحاد إلى الإيمان المعرفي كانت مليئة بالأسئلة العميقة والتأملات، ولم تكن معزولة عن التأثيرات العلمية التي واجهها.

 البداية العلمية والفلسفية

نشأ هويل في زمن كانت فيه النظرة العلمية للكون تتسم بالحتمية، مع صعود موجة الإلحاد التي وجدت في التفسيرات العلمية للطبيعة بديلاً عن التفسيرات الدينية. درس في جامعة كامبريدج، وسرعان ما تميز بذكائه وقدرته على التفكير النقدي. من أبرز إنجازاته كانت نظرية "التخلق النووي" التي تشرح كيفية تشكل العناصر الثقيلة داخل النجوم.

ورغم هذه الإنجازات، كان هويل في البداية يرفض أي فكرة تتعلق بتدخل خارجي في نشأة الكون. من ذلك رفضه العنيد لنظرية "الانفجار العظيم" للوميتر، والتي تستلزم أن للكون بداية، وإذا كانت هناك بداية فلابد من القول بوجود خالق. بل قال في مقابلة له مع هيئة الإذاعة البريطانية في الخمسينيات من القرن المنصرم: «بأن القول بنظرية الانفجار العظيم أمر مهين وغير لائق "كفتاة تشارك في حفلة ما وتقفز من داخل الكعكة". الدين وعلوم النشأة ـ كلي كلرك ـ ص14.

الأمر الذي دعاه لتبني نظرية "النمو الثابت" للكون والتي لا تستلزم وجود بداية للكون، وبالتالي وجود خالق، لأن الكون وفقها لا يحتاج إلى بداية محددة، بل هو دائم ومستمر.

التحدي: هل الكون مصمم؟

بدأ التحول الفكري لهويل عندما واجه أسئلة صعبة تتعلق بتعقيد الكون ودقته. لاحظ أن القوانين الفيزيائية التي تحكم الكون منظمة بشكل دقيق للغاية، إلى حد أن أي تغيير طفيف فيها كان سيجعل الحياة مستحيلة. في هذا السياق، يقول هويل: «إن توازن الظروف الطبيعية الدقيقة التي تسمح بنشوء الحياة يعادل إلى حد كبير الإيمان بأن عاصفة قد اجتاحت ساحة خردة وصنعت طائرة بوينغ 747».

هذه الملاحظة أثارت في ذهنه تساؤلات حول ما إذا كان من الممكن أن يكون هذا النظام الدقيق مجرد صدفة. وبدأ هويل يرى أن تفسير الكون كتفاعل عشوائي للطبيعة غير كافٍ. هذا التفكير دفعه إلى الاعتراف بوجود "شيء" وراء هذه الدقة، وبدأ يتساءل: هل يمكن أن يكون هناك عقل أو ذكاء مبدع يقف خلف هذا الكون؟

الانتقال إلى الاعتراف بالخالق

بعد سنوات من التأمل والبحث، تخلى هويل عن إلحاده الصارم واعترف بإمكانية وجود خالق للكون، ففي إحدى أشهر اقتباساته يقول: «يبدو أن الكون مصمم بذكاء عظيم. القوانين التي تتحكم في الطبيعة ليست مجرد حظ، بل هي تعبير عن شيء أعمق.» "The Intelligent Universe" (الكون الذكي).

هذا الموقف لم يكن مجرد تحول فلسفي، بل كان ناتجًا عن ملاحظات علمية دقيقة. هويل لم يعد قادرًا على تجاهل أن الكون يبدو منظمًا بعناية، ولم يعد يقتنع بأن الصدفة العشوائية يمكن أن تفسر هذا التعقيد الهائل. ومع ذلك، لم يكن هويل يؤمن بتصور ديني محدد عن الله، بل كان إيمانه أقرب إلى الاعتقاد بوجود قوة خفية أو عقل كوني يقف وراء تصميم الكون.

اقتباسات وآراء علماء آخرين

رحلة هويل الفكرية ألهمت العديد من العلماء والمفكرين. السير مارتن ريس، عالم الفيزياء الفلكية البريطاني، أشار إلى أن «هويل كان أحد أولئك الذين أدركوا أن الكون يبدو دقيقًا للغاية ليكون مجرد صدفة». ريس أضاف: «التفكير في أن كل شيء قد حدث من تلقاء نفسه يتطلب إيمانًا لا يقل عن الإيمان بوجود خالق».

عالم الفلك والفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ أيضًا أبدى اهتمامًا بمسألة التصميم الكوني. ورغم أن هوكينغ نفسه لم يؤمن بوجود إله، إلا أنه أشار في كتابه "التصميم العظيم" إلى أن "الكون يبدو وكأنه مصمم بطريقة تجعل الحياة ممكنة". هذا الرأي يتوافق بشكل ما مع تحول هويل، حيث أن كلًا من هوكينغ وهويل اعترفا بصعوبة تفسير الكون كصدفة عشوائية.

الخلاصة: بين العلم والفلسفة

إن تحول فريد هويل من الإلحاد إلى الاعتراف بوجود ذكاء أو عقل مبدع يبرز أهمية التوازن بين العلم والفلسفة. هويل، الذي بدأ رحلته كشخص ملحد ومؤمن بالتفسيرات العلمية الصارمة، وجد في النهاية أن العلم وحده لا يمكنه تفسير كل شيء. لقد رأى أن الكون يحتوي على أسرار أكبر من أن تُفسر بالصدفة، وأن النظام والدقة اللذين يحكمانه يدلان على وجود قوة أعظم وراء هذا التصميم.

 قصة هويل تمثل درسًا هامًا حول أهمية التواضع الفكري. فحتى أولئك الذين يعتقدون أنهم يمتلكون كل الإجابات من خلال العلم قد يجدون أنفسهم مضطرين إلى إعادة النظر في مواقفهم عندما يواجهون الأسئلة الكبرى حول الكون والحياة. في نهاية المطاف، قد يكون الكون أكثر تعقيدًا وإعجازًا مما يمكن للعقل البشري أن يستوعب، وربما يحمل في طياته إشارات إلى قوة أو عقل خفي يوجه كل شيء.



التعليقات