السبت 2 ربيع الآخر 1446هـ 5 أكتوبر 2024
موقع كلمة الإخباري
توبة عبد الرحمن بدوي تفضح عنصرية الغرب تجاه الإسلام!
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 10 / 04
0

لقد كانت علاقة الغرب بالإسلام عبر القرون مليئة بالتناقضات، تتأرجح بين الانبهار بالحضارة الإسلامية والعلم والفكر الذي حملته، وبين الخوف من دينٍ يتسع أفقه ليشمل كل جوانب الحياة.

ولكن اليوم، يُطل علينا مشهد جديد من هذه العلاقة، مشهدٌ يحمل في طياته العنصرية الفكرية التي تسعى لتشويه الإسلام وتجريده من قيمه النبيلة. هذه العنصرية ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لتاريخ طويل من الخوف والتحامل على هذا الدين العظيم، تمتد جذورها في الحروب الصليبية وتتجدد بأشكال متعددة مع كل تحول سياسي أو اجتماعي.

العنصرية الغربية تجاه الإسلام ليست مجرد مواقف سطحية أو مظاهر كراهية عابرة؛ إنها تيار فكري يكرس الصور النمطية والاتهامات الجائرة بحق الإسلام والمسلمين. ولهذه العنصرية أسبابها السياسية والدينية، ففور سقوط الشيوعية قرر الغرب الإمبريالي الرأسمالي اتخاذ الإسلام عدواً بديلاً له، وشن عليه حملة واسعة من الكراهية والتخويف والتزييف.. فكتبت مجلة شؤون دولية التي تصدر عن جامعة كمبردج بلندن، عدد يناير سنة 1991: «لقد شعر الكثيرون بالحاجة الى اكتشاف تهديد يحل محل التهديد السوفييتي، وبالنسبة لهذا الغرض فإن الإسلام جاهز وفي المتناولّ! فالإسلام مقاوم للعلمنة، وسيطرته على المؤمنين به قوية، وهي أقوى الآن عما كانت من مائة سنة مضت. لذلك فهو من بين الثقافات الموجودة في الجنوب، هو الهدف المباشر للحملة الغربية الجديدة ليس لسبب سوى انه الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحدٍ فعلي وحقيقي لمجتمعات يسودها مذهب اللاأدرية، وفتور الهمة واللامبالاة، وهي آفات من شأنها أن تؤدي الى هلاك تلك المجتمعات مادياً، فضلاً عن هلاكها المعنوي». 

ولقد تبارى المفكرون والاستراتيجيون الغربيون في التحذير من الإسلام، وفي تأجيج نيران العداء له، وإعلان الحرب عليه.. فكتب فوكوياما يقول: «إن الإسلام هو الحضارة الوحيدة في العالم التي ترفض الحداثة الغربية، ومبدأها الأكثر أساسية وهو العلمانية.. وإن الصراع الحالي ليس ضد الإرهاب، ولكنه صراع ضد العقيدة الإسلامية الأصولية التي ترفض الحداثة والدولة العلمانية.. وهذا الصراع يمثل تحدياً أيدلوجياً، هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي مثلته الشيوعية». نقلاً عن كتاب دفاع عن القرآن الكريم .. مقدمة الدكتور محمد عمارة ص13.

ولقد أنضم فيلسوف صدام الحضارات صموئيل هنتجتون الى فوكوياما وأعلنا ضرورة قيام «حرب داخل الإسلام، حتى يقبل الحداثة الغربية، والعلمانية الغربية، والمبدأ المسيحي: فصل الدين عن الدولة». مجلة نيوزويك الأمريكية، العدد السنوي، ديسمبر 2001ـ فبراير 2002.

ويعلن الكاردينال بول بوبار مساعد بابا الفاتيكان: «ان الإسلام يشكل تحدياً لأوربا وللغرب عموماً.. وان هذا التحدي يكمن في أنه دين وثقافة ومجتمع وأسلوب حياة وتفكير وتصرف، في حين ان المسيحيين في أوربا يميلون الى تهميش الكنيسة أمام المجتمع». صحيفة الشرق الأوسط لندن في 1/10/1999.

ويعلن المونسينيور جوزيبي برنارديني في حضرة بابا الفاتيكان: «ان العالم الإسلامي لديه برنامج للتوسع في أوربا وهو يريد ان يفتحها فتحاً جديداً». المرجع السابق في 13/ 10/ 1999.

وتنصح مراكز الدراسات الغربية وفي المقدمة منها مؤسسة رند الأمريكية صانع القرار الغربي بالاعتماد على الحداثيين والعلمانيين في العالم العربي والإسلامي، لاستخدامهم في الصراع مع الإسلاميين الأصوليين والراديكاليين.

إزاء هذه العنصرية الغربية تجاه الإسلام، وفي خضم هذا الهجوم الفكري، تبرز قصة الدكتور عبد الرحمن بدوي، أحد أعلام الفلسفة الوجودية في القرن العشرين، كشاهد على قوة الحق وسلطان الحقيقة. كان بدوي رمزًا للفكر الحر الذي تميز بميله للوجودية، وهي الفلسفة التي تتحدث عن ضياع الإنسان في الكون وافتقاده لمعنى الحياة. لكن، بعد سنوات من البحث والتمرد على الأديان، عاد بدوي إلى الإسلام بعد أن أدرك عمق هذا الدين وشموله للحياة والوجود ووقوعه تحت التضليل الغربي الذي مارس تشويه الإسلام حتى لأبنائه.

توبة بدوي من الوجودية إلى الإسلام ليست مجرد حدث شخصي، بل هي شهادة حية على قوة الإسلام في مواجهة الأفكار المادية والتيارات الفلسفية المنحرفة التي انتشرت في الغرب. لقد أدرك بدوي أن الإسلام يقدم رؤية متكاملة للإنسان، تجمع بين المادة والروح، بين العقل والإيمان، وبين الفرد والمجتمع. في حين أن الوجودية، رغم بريقها الفلسفي، تُغرق الإنسان في حالة من العدمية والضياع، تقدم الإسلام كمنارة تسترشد بها النفس البشرية في رحلة البحث عن الحقيقة.

عندما تحول الدكتور بدوي من الفلسفة الغربية المادية إلى الإسلام، اكتشف ما تجاهله الغرب عمدًا: أن الإسلام ليس مجرد دين، بل هو طريقة حياة، نظام شامل للوجود. وهذا ما يخيف الغرب في الحقيقة؛ فهم لا يخشون الإسلام بقدر ما يخشون قوته في إضفاء المعنى على الحياة وإلهام القلوب التي أرهقها المادية.

ويجد الدكتور عبد الرحمن بدوي كل معالم هذه الحرب على الإسلام في فرنسا والغرب في السنوات التي عاشها هناك.. وفي مواجهة هذه التحديات انتفض عقل الدكتور بدوي، فعاد بكل كيانه الى أصالته الحضارية، وبدا مرحلة إيابه الفكري ودفاعه عن الإسلام والقرآن ورسول الإسلام صلى الله عليه واله، ويومها قال: «إن عنصرية الغربيين ضد الإسلام واضحة، فالغرب فيما يتعلق بالإسلام يكيل ليس بمكيالين، بل بعشرة وربما بمائة مكيال، فهو أكثر عنصرية ووحشية مع الإسلام مما يمكن ان نتصور. وفي مكتبات باريس عشرات الكتب التي تقطر سماً على الإسلام، بل ان الكتابة في الإسلام قد أصبحت حكراً على ذوي الخط الأعوج! إن كل من هب ودب من الغربيين بات يعطي نفسه الحق في الحديث عن الإسلام، وترجمة قرآنه المجيد، ولقد تألمت كثيراً لأن باحثاً يهودياً يدعى (اندريه شوراكي)، كان يشغل منصب عمدة القدس قام بوضع ترجمة للقرآن الكريم هي عار على الترجمة والمترجمين في كل زمان، لأنها مليئة بالاعتداءات الصارخة على قداسة النص القرآني».

إن الغرب لا يريد أن يفهم من الإسلام إلا ما يريد هو أن يفهمه، ولذلك يرحب ويفسح المجال أمام ترجمة مؤلفات الكُتاب العلمانيين، أمثال فرج فودة وسعيد العشماوي وفؤاد زكريا، التي جمعها وترجمها من العربية الى الفرنسية المستشرق جيل كيبيل.

كذلك وجد الدكتور بدوي في باريس نماذج من الأساتذة الباحثين "العرب" الذين سقطوا في غواية الاستشراق الغربي، فأصبحوا خدماً لهذه المخططات الاستشراقية ومن هؤلاء الدكتور محمد أركون الذي قال عنه الدكتور بدوي: «وهل لأركون رسالة غير تشويه التراث الإسلامي؟! إنه تلميذ في مدرسة الاستشراق الاستعماري الكبرى التي تضع نصب عينيها كهدف ثابت تشويه الإسلام والإساءة الى نبيه والطعن في قرآنه المجيد، وهو يحيط نفسه بمزاعم معرفية لا أساس لها، وهو مشكوك في وطنيته، لقد جنى على الفكر العربي جناية لا تغتفر، ولقد كتب مقدمة لترجمة كازيمسكي للقرآن الكريم حوت أخطاء ومغالطات لا تكاد تغتفر لدارس مبتدئ في تاريخ الفكر الإسلامي». دفاعاً عن القرآن ضد منتقديه، مقدمة الدكتور محمد عمارة، ص16.

هكذا انتفض عقل الدكتور عبد الرحمن بدوي وانتفض وجدانه فعاد الى اصالته الحضارية، مدافعاً عن الإسلام وعن القرآن وعن رسول الإسلام صلى الله عليه واله.

وقبل شهر من وفاته التي جاءت في 25/7/2002، وهو على فراش المرض أجرت معه مجلة الحرس الوطني السعودية حواراً أعلن فيه صراحة إيابه الفكري الى الإسلام وحضارته، وطيه لصفحة الوجودية التي استغرقت من حياته عدة عقود، وفي هذا الحوار سأله مندوب المجلة: 

ـ ماذا تود أن تقول وأنت على فراش المرض؟

ـ لا أستطيع أن اعبر عما بداخلي من إحساس الندم الشديد، لأني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن. أشعر الآن أني بحاجة الى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق، لكي أعود من جديد مسلماً حقاً. إنني تبت الى الله وندمت على ما فعلت، وأنوي إن شاء الله ـ بعد شفائي ـ أن أكون جندياً للفكر الإسلامي وللدفاع عن الحضارة التي شادها الآباء والأجداد، والتي سطعت على المشارق والمغارب لقرون وقرون. 

ـ وهل تبرأت من كتاباتك السابقة عن الوجودية والزمن الوجودي وعن كونك رائد الوجودية في الوطن العربي؟!

ـ نعم.. أي عقل ناضج يفكر لا يثبت على حقيقة واحدة، ولكنه يتساءل ويستفسر ويطرح أسئلته في كل وقت، ويجدد نشاطه باستمرار، ولهذا فأنا في الفترة الحالية أعيش مرحلة القرب الى الله تعالى، والتخلي عن كل ما كتبت من قبل من آراء تتصادم مع العقيدة والشريعة، ومع الأدب الملتزم بالحق والخير والجمال، فأنا الان هضمت تراثنا قراءة وتذوقاً وتحليلاً وشرحً وبدا لي انه لم يأت لأمة من الأمم مثل هذا الكم الزاخر النفيس من العلم والأدب والفكر والفلسفة لأمة الضاد!! كما أني قرات الآداب والفلسفات الغربية في لغاتها الأم مثل الإنجليزية والفرنسية واللاتينية والألمانية والإيطالية، وأستطيع أن أقول إن العقل الأوربي لم ينتج شيئاً يستحق الإشادة والحفاة مثلما فعل العقل العربي!! وتبين لي في النهاية الغي من الرشاد، والحق من الضلال.

ـ وما رأيك بالحداثة بعد أن افتضح أمرها، وثارت حولها القصص والحكايات بشأن التمويل والعلاقات المشبوهة مع المخابرات الغربية؟!

ـ الحداثة ماتت في الغرب في السبعينات، لكننا أحييناها على ترابنا، وفي جامعاتنا ومعاهدنا، وفي منتدياتنا الفكرية والثقافية والأدبية. وعادينا من أجلها تراثنا العظيم، وشعرنا العمودي، وفكرنا القويم، وخضنا بسببها حروباً طاحنة، واشتباكات فكرية لا طائل من ورائها، ولم يفطن أدباؤنا ولا مفكرونا الى حقيقتها والى أوزارها ومساؤها الى بعد صدور هذا الكتاب (الحرب الباردة الثقافية.. دور المخابرات المركزية الأمريكية في الثقافة والفن)، الذي أحدث صدمة قوية بالنسبة لهؤلاء المتغربين، فاقتنعوا أخيراً بما كنا نقوله من قبل!

ـ يهاجم الجميع العولمة، لما يكتنفها من هيمنة وغزو وسيطرة، ومحق لثقافات وتوجهات وهويات الآخرين الحضارية، فما رأيك في ذلك؟

ـ العولمة شبح يريد الفتك بنا جميعاً، فهي وحش كاسر يتربص بالعالم كله، لكي يستحوذ عليه ثقافياً وفكرياً وحضارياً واقتصادياً وعسكرياً، وهي استعمار جديد، وهيمنة غربية على مقدرات العالم، ولعقوله وأفكاره وأمواله، ويجب ان نتصدى لها، وان نفيق لمخططاتها الجهنمية.

ـ وهل تقدرون مغبة عودتك الحميمة للإسلام بالنسبة للحداثيين والعلمانيين الذين سيشنون حرباً شرسة ضدكم؟!

ـ ما دمت قد هاجمت الأصلاء وعرضت بهم وبإنتاجهم لسنين وسنين، فما المانع أن أذوق من نفس الكأس، وأن أشرب منه، بعد أن تسببت في تجرع الكبار من هذه الكأس من قبل؟! وانا سعيد بان يهاجمني الوجوديون والشيوعيون والعلمانيون، لن معنى ذلك أني أسير على الحق، وأنني على صواب. ولا أكترث بما يكتبون، لن القافلة تسير والكلاب تنبح.

ـ وماذا تتمنى في هذه اللحظة؟

ـ أتمنى ان يمد الله في عمري، لأخدم الإسلام وارد عنه كيد الكائدين، وحقد الحاقدين. مجلة الحرس الوطني السعودية، العدد 244، في 1/10/2002.

الاستشهاد بتوبة الدكتور بدوي يوضح بجلاء أن الإسلام يحمل في طياته قوة روحية قادرة على التغلب على التيارات الفكرية المضللة. فكما كان بدوي في قلب الفلسفة الوجودية الغربية، استطاع أن يتحرر منها عندما أدرك ضلالها، واختار الإسلام لأنه قدم له إجابات حقيقية عن أسئلة الحياة والوجود التي عجزت الفلسفات الأخرى عن تقديمها.

في النهاية، يظل الإسلام شامخًا أمام الهجمات والعنصرية، تمامًا كما بقي عبد الرحمن بدوي ثابتًا في قراره بالعودة إلى دين الفطرة. وسيبقى الإسلام بقيمه وعدله وروحه النقية قوة هائلة تستقطب القلوب والعقول، مهما حاول الغرب تشويه صورته.



التعليقات