السبت 2 ربيع الآخر 1446هـ 5 أكتوبر 2024
موقع كلمة الإخباري
زئبقية نتنياهو تسيح على خرائطه!
جمال محمد تقي
كاتب عراقي
2024 / 09 / 22
0

وسائل الإيضاح مطلوبة دوما، عندما يشرح الأستاذ درسا جديدا، وقد تكون ملحة أثناء محاضرة في موضوع شائك، وربما يستعين بها اصحاب السلطة لتنفيذ المهمات الصعبة.

أما قرارات وخطط الحكومات وسياساتها العامة، فهي ليست بحاجة لوسائط لتعميمها، فهي معدة سلفا للتنفيذ، وعلى ضوء معطيات مسبقة ومتوقعة، وإن أراد أحد المسؤولين تبرير قرار ما أو الدفاع عن سياسة او موقف ما ،امام المشككين او المنتقدين أو الإجابة على استفسارات الصحافيين فإنه ربما يستعين ببعض الامثلة من باب التعزيز ، بوسائل المقارنة والتناظر لكن ان يأتي رئيس الوزراء وفي مؤتمر صحافي لشرح موقف، هو محط جدل واختلاف، داخل سلطته ودولته العميقة، من جيش وأجهزة أمنية واستخبارية، ونقابات وغرف تجارية، ومراكز اقتصادية وجهاز قضائي وأحزاب معارضة، وأخيرا الشارع، ويقول إن موقفه وبالتالي قراره هو الصواب بعينه، ثم يتقمص دور المعلم الواثق، والمتبجح بموقفه المستند لخرائط ووثائق افتراضية تشرح فكرته المتناقضة، كخنق حماس وعقد صفقة معها، واستعادة الرهائن، من دون وقف لإطلاق النار، ويريد غزة خاضعة لجيشه، ومن الجهات الست دون أن يحتلها ثم يقدم خرائطه المعبرة عن خططه وكأنها أدلة دامغة على صحة ما يذهب اليه ،من دون أن يقدم إجابات مقنعة على الأسئلة التي تشكك بما يستعرضه، والتي تدلل على فقدان الثقة بما يسرده جملة وتفصيلا، وعلى انعدام مصداقية خرائطه لأنها ببساطة مفبركة ولم تدخل عيون وعقول المستفسرين !

المقام العالي

هوسه بتعطيل أي إمكانية لإيقاف الحرب يعكس خوفه الدفين من حالة المراجعة التي ستنال منه شخصيا ومن حكومته المتهورة، ويبدو أنه سيواصل المناورة حتى انتهاء الانتخابات الأمريكية ليتدبر أمره مع نتائجها.

ومن الواضح أن إدارة بايدن هي الأخرى لا تقوى على الحسم لأنها غير مستعدة لاتفاق لا يرضى عنه نتنياهو، لأن في رضاه مصلحة انتخابية لذلك من مصلحتها استمرار الإيحاء بإمكانية حصول صفقة من خلال المفاوضات المستعصية من دون الإعلان عن فشلها حتى ينتهي الاستحقاق الانتخابي!

التضحية غير المعلنة بالرهائن من قبل نتنياهو برغم دموع التماسيح التي يذرفها عليهم وبرغم وعوده المستهلكة باسترجاعهم يبررها سعيه لإبقاء إسرائيل كلها مشدودة لتوترات بعبع الصراع الوجودي، حتى يتمكن من تحقيق مكاسب ربما غير متوقعة تساعده بالتراكم على سد ابواب الإدانة، وقد تمنحه صك الغفران، وشهادة التفوق على السابقين والحاضرين منذ بن غوريون مرورا بشامير ورابين حتى شارون ليكون مقامه كما يتمنى بمقام ،تشرشل وايزنهاور ،مقام فوق مستوى الشبهات ،مقام عالي يفوق القضاء العالي ،وفوق الجميع ،فلولاه لما بقيت إسرائيل ولولا حروبه الوجودية لما كبرت وعظمت إسرائيل بدلالة الخريطة ومفتاحها الوجودي السحري، ممر فيلادلفيا الذي دخله بعد أن دخل كل مكان في غزة بحثا عن أهدافه التي لم يجدها، فراح يتوهم في الممر عقدة الأهداف التي لم ولن تتحقق!

خريطة مغالطة

عقد نتنياهو مؤتمرين صحافيين متتاليين الأول باللغة العبرية موجها للداخل الإسرائيلي، وفي اليوم التالي كان باللغة الإنكليزية موجها للصحافة الأجنبية والخارج عموما، وتمحور الحديث في كليهما حول مستجدات الصفقة بعد مقتل الرهائن الستة، ولماذا يصر شخصيا على البقاء في محور صلاح الدين ” فيلادلفيا ” حتى لو أعاق موقفه هذا إتمام الصفقة.

وقد استخدم في الحالتين خريطة واحدة تظهر إسرائيل وغزة ومحور صلاح الدين حجته المعلنة لعرقلة الصفقة المأمولة اختفت الضفة الغربية منها، وظهرت غزة وكأنها شوكة في خاصرة إسرائيل المتمددة شمالا على هضبة الجولان والمستغرقة بما هي ستكون لا بما هي كائنة، إسرائيل من البحر الى النهر ومن دون أشواك، وقدم في عرضه المكرر ورقة مكتوبا عليها بالعربي، رؤوس أقلام عن أهمية الحرب النفسية في تحريك الشارع الإسرائيلي واللعب على وتر الرهائن بالضد من الحكومة الإسرائيلية للضغط عليها وإرباكها، ملمحا إلى كون السنوار هو من كتبها، الملاحظ أنه في الأول ركز على أهمية الضغوط العسكرية على حماس لإتمام الصفقة، وخاطب عوائل الرهائن مؤكدا على حتمية استرجاعهم وشدد على الوحدة المطلوبة لتفويت الفرصة على محاولات حماس لكي تتراجع عن شروطها مسقطا تعنته، على مواقف حماس التي ترفض التواجد الإسرائيلي الضامن لتكتيفها وعدم تهريب الرهائن الى خارج غزة، وكانت نبرته في المؤتمر الثاني مختلفة، وخاصة من جهة شيطنة حماس وتنزيه الجيش الإسرائيلي من أي مخالفات تمس القانون الدولي أو التجاوز على الأخلاقيات الإنسانية أثناء الحروب، واستشهد بسماح الجيش بحملة تطعيم أطفال غزة ضد شلل الأطفال، وزيادة دخول الشاحنات المحملة بالمساعدات، ثم أشار الى دخول رفح الذي حذرت منه اغلب دول العالم، وكيف حققته إسرائيل وبشكل نموذجي فلا ضحايا تذكر، وذلك بسبب عمليات الإخلاء الحريصة على سلامة المدنيين، فقد وفر الجيش الإسرائيلي مناطق آمنة معززة بالخيم والمساعدات، إنه الجيش الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم، والدليل تعيين أحد ضباط الجيش منسقا للشؤون الإنسانية في غزة ” إبادة خمس نجوم ” !

الوثائق الملفقة

كل ما قاله نتنياهو لم يكن متسقا مع واقع الحال الذي لا تستطيع التغطية عليه الإجابات الكاذبة والوثائق الملفقة التي قدمها، مهما كانت بليغة، ومتقنة ومنفعلة، لغة الجسد وحدها، وارتباكها مع سؤال لأحد الصحافيين عن صحته وبالتالي قدرته على ممارسة مهامه تفضح حالة الإنكار وصناعة الأوهام التي يعيشها صحاب القرار في كيان علته في عقله الفاقد لشروط التوازن الطبيعي، عندما اعتبر نفسه هو الدولة والبقية تتبع !

من غير المنطقي أن لا يفكر نتنياهو في الخروج الآمن فكل الذي يدور حوله لا يبعث على اليقين ولو بأدنى الحدود تحديات متراكمة ومتلازمة، أولها تناقضات كورسه اليميني الحاكم، والأهمية الاستثنائية لصموده موحدا لضمان استمرار حكمه، وليس آخرها شبح الانتخابات المبكرة، وتجاوز استحقاق المحاسبة على إخفاقات 7 أكتوبر /تشرين الأول وما نتج عنها من تداعيات وخاصة مشكلة تحرير الرهائن، وتتلازم مع هذه الأولوية، تعقيدات التشعب الجيوسياسي للحرب على غزة والاستنزاف الشامل الذي تعانيه إسرائيل في حالة إصراره على البقاء فيها، وانعكاسات ذلك على الوضع في الضفة الغربية، وعلى الوضع الأمني شمال إسرائيل ثم توالي المتلازمات المتعلقة بالموقف الإقليمي والدولي.

طوق نجاة

ربما المراهنة على ترامب كطوق نجاة واحدة من المخرجات لكنه ليس شافيا ولا كافيا ولا مضمونا، إلا إذا تساوق مع حرب خاطفة على «حزب الله» وضربة خاطفة للمؤهلات النووية الإيرانية.

وتتخلل كل هذه السيناريوهات الخاطفة مراهنة موازية على النجاح التكتيكي في حملة اغتيالات للصفوف القيادية لحماس و«حزب الله» والحوثيين، ولو نجح في تصفية السنوار، يكون قد وصل إلى ذروة النجاح الموازي ، قائمة طويلة من المنجزات لو تحققت تنتعش آماله في الخروج الآمن من السلطة وربما البقاء الآمن فيها!

بما أن السياسة هي علم الممكنات فإنها لا تمكن الرغبة على حساب الشروط التي تستوجبها الأحداث وقواها المتغالبة والظرف الذاتي والموضوعي يقيدان الرغبوية وربما يخنقانها ويبدو أن نتنياهو رغبوي أكثر من اللازم، وهذا ما يجعله عالي السقوف، ومصدوم على الدوام، وربما مخنوقا على الدوام، وبرغم قدرته الفائقة على التلون وبزئبقية يصعب السيطرة عليها لكن مصيره يبقى مرهونا بمعطيات الأطراف الفاعلة الأخرى، وهي الأكثر تفاعلا مع الممكنات الكلية والجزئية !

التعليقات