في حوار أجرته عام 2016، أعربت كاتي هيند وهي متخصصة في علم الأحياء لدى جامعة ولاية أريزونا الأميركية عن أسفها الشديد لعدم اهتمام العلم بحليب الأم إلا بقدر ضئيل. إذ حتى تلك المرحلة تخبرنا تلك المتخصصة بأن دراسات أكثر بكثير من تلك التي تطرقت لحليب الأم أجريت على كل من النبيذ والطماطم، ومايزال الوضع على حاله بعد مرور ثماني سنوات على ذلك.
والوضع الذي لم يتغير هو أيضاً يتمثل في إهمال العلماء لمنجم الذهب هذا، إذ بخلاف النبيذ والطماطم، تتطور الخصائص الفيزيولوجية لحليب الأم بما يفيد الصحة، إذ بوسع هذا الحليب أن يقلل حالات الالتهاب لدى الرضع كما أنه يقتل الجراثيم المسببة للأمراض، ويحسن صحة جهاز المناعة، ونتيجة لذلك، أصبحت بعض عناصر حليب الأم تدرس بوصفها يمكن أن تتحول إلى علاج لطائفة من الأمراض التي تصيب الكبار، وأهمها السرطان وأمراض القلب والتهاب المفاصل ومتلازمة القولون العصبي، ولذلك قد تتغير نظرة العلماء لحليب الأم بشكل كامل.
ماتزال التركيبة الدقيقة لحليب الأم غامضة بعض الشيء، إذ بعد الماء، يحتوي حليب الأم بكثرة على عناصر أهمها اللاكتوز ومركبات دهنية تعرف بالدهون، وجزيئات السكر التي تعرف باسم سكريات الحليب البشري (HMOs)، كما يحتوي أيضاً على مجموعة من البروتينات والفيتامينات والمعادن والأنزيمات والهرمونات والخلايا الحية الآتية من جسد الأم. ويستمر غنى حليب الأم في إدهاشنا، إذ في عام 2009 على سبيل المثال، تم التعرف على أكثر من 250 بروتيناً لم يكن أحد يعرفها مسبقاً لكنها موجودة في حليب الأم، وفي عام 2015 تم اكتشاف 300 جزئي لحموض ريبوزية نووية ميكروية والتي تعمل على تنظيم تدفق المورثات في الجسم، وعن ذلك تحدثنا ميغان آزاد من جامعة مانيتوبا بكندا، فتقول: "ثمة مجالات كثيرة للاكتشاف [في حليب الأم]".
عرق اللبن
في دراسة أجريت منذ فترة قريبة على حليب أخذ من 1200 أم في ثلاث قارات، عثرت الدكتورة آزاد مع زملائها على ما يقارب من 50 ألف جزيء صغير، معظمها لم يعرفه العلم من قبل. وعبر الاستعانة بأنماط الذكاء الصناعي لتحليل هذه القائمة من المكونات، وربطها ببيانات صحية مفصلة عن الرضع وأمهاتهم، تطلع ذلك الفريق إلى التعرف على عناصر تفيد نواح معينة في تطور الرضع.
وهذا العمل من شأنه إضافة الزخم المطلوب في هذا المجال، إذ في الوقت الحالي تجري عملية تحديد تلك العناصر والمكونات من ضمن عدد كبير ولكن بشكل عشوائي في معظم الأحيان، إذ في إحدى المرات، لاحظ الأطباء بأن الخدج الذين يتغذون على حليب الأم بدلاً من الحليب الصناعي يقل لديهم وبشكل كبير معدل الإصابة بالتهاب الأمعاء والقولون الناخر (NEC)، والذي يعتبر مرضاً فتاكاً بما أنه يصيب أنسجة الأمعاء بالالتهاب ومن ثم الموت. وقد أدت تلك الملاحظة إلى إجراء دراسة حول قدرة مكونات معينة في حليب الأم على منح هذا النوع من الحماية.
قد تكون سكريات الحليب البشري أحد العناصر المسؤولة عن ذلك، بما يعرف عنها من تأثير مضاد للالتهابات، وهذا ما أدى لظهور الفكرة القائلة بإن سكريات الحليب البشري يمكن أن تستخدم كعلاج لأمراض تنطوي على التهاب، إذ في دراسة أجريت على الفئران ونشرت في عام 2021، تحدث لارس بودي من جامعة كاليفورنيا بسان دييغو وزملاؤه عن سكريات الحليب البشري وذكروا بأنه يحد من ظهور حالة تصلب الشرايين، أي انسداد الشرايين الذي يؤدي إلى حدوث نوبة قلبية أو سكتة دماغية. كما ذكر الدكتور بودي بأن سكريات الحليب البشري أظهرت في تجارب أخرى أجريت على فئران، وستنشر نتائجها قريباً، ما يبشر بمعالجة التهاب المفاصل وحالات الدوالي، بيد أن التجارب السريرية التي ستجرى على بشر لا بد أن تكون مكلفة أكثر بكثير من تلك التي أجريت على فئران.
ثمة اكتشافات أخرى أتت بالصدفة، إذ في عام 1995 تحدث علماء من جامعة لوند بالسويد في تقريرهم عن اكتشاف عثروا عليه مصادفة في أثناء دراستهم للخواص المضادة للميكروبات في حليب الأم، وذلك عندما أضافوا بعض مكونات حليب الأم إلى طبق يحتوي على خلايا من سرطان الرئة، على أمل مراقبتها وهي تصد البكتيريا. ولكن اللافت أن الخلايا السرطانية ماتت عوضاً عن ذلك، والعنصر الذي قام بقتلها هو الجزئي المعروف باسم هامليت والذي يتشكل عند اتحاد مكونين من مكونات حليب الأم (وهما بروتين ألفا لاكتالبومين وحمض الزيت).
ومنذ ذلك الحين، صار فريق الباحثين الذي ترأسته كاثرينا سفانبورغ يدرس احتمال تحويل هامليت إلى علاج للسرطان، لأن تلك الجزئيات يظهر سحرها عند دخولها إلى نواة الخلية السرطانية ومن ثم إعادة برمجتها للحمض النووي للخلية، مما يمنع قيامها بوظائفها الأساسية. وثمة ميزة إضافية لهذه الطريقة وتتمثل في أن الخلايا السرطانية تموت من دون أن تتلف النسيج السليم من حولها. وفي نتائج دراسة قصيرة ماتزال في مراحلها الأولى من الاكتشاف ونشرت في العاشر من أيلول الحالي في مجلة طب السرطان، عمل عقار مطور من هامليت على الحد من حجم 88% من الأورام الموجودة في سرطان المثانة لدى المرضى، من دون أن يخلف أي آثار جانبية، باستثناء شعور بالانزعاج في موضع الحقن. كما أن نتائج الأبحاث التي أجريت على فئران يعانون من سرطان المخ والقولون أتت بنتائج واعدة هي أيضاً.
علاج مشكلات الأمعاء ببكتيريا من حليب الأم
لا تقتصر الفوائد الصحية الموجودة في حليب الأم على جزيئاته، إذ قبل نحو 15 عاماً، كان معظم العلماء يعتقدون بأن حليب الأم معقم، غير أن أدوات الكشف عن سلاسل المورثات كشفت بأنه يحتوي على كم وافر من البكتيريا، إذ إن بعض أنواع البكتيريا، مثل البيفيدوباكتيريوم وهي بكتيريا مفيدة إلى حد كبير تتغذى على سكريات الحليب البشري بشكل حصري، يمكنها أن تصل إلى أمعاء الرضيع، فتقوي غشاءها، وتنظم الاستجابة المناعية والالتهابية، وتمنع البكتيريا الممرضة من الالتصاق ببطانة الأمعاء، وهذا ما يجعل هذه البكتيريا المرشح المثالي للاستخدام في أنواع البروبيوتيك وهي عبارة عن مكملات تحتوي على بكتيريا حية تستخدم لعلاج بيئة الأمعاء.
وحالياً يجري العمل على اكتشاف خواص تعزيز المناعة التي تتمتع بها بكتيريا البيفيدوباكتيريوم لدى المرضى من كل الأعمار والذين يعانون من ضعف في المناعة، وتجري شركة برولاكتا بيوساينس وهي شركة متخصصة بالتقانة الحيوية في كاليفورنيا، تجربة سريرية على إحدى الفصائل الفرعية التي تعرف باسم ب إنفانتيز وذلك عبر الجمع ما بينها وبين سكريات الحليب البشري لدى بالغين يخضعون لعملية زرع نخاع العظم من أجل القضاء على سرطان الدم (غير أن هذه العملية تقضي على جهاز المناعة). وثمة أدلة تشير إلى أن ذلك قد ينجح، إذ في تجربة صغيرة أجريت في عام 2019 بمشفى سينسيناتي للأطفال، تبين بأن حليب الأم الذي أعطي للأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين يوم واحد وخمس سنوات بعد عملية زرع نقي العظام أدى إلى تقليل إصابتهم بالأمراض المعدية وغير ذلك من المضاعفات.
وبما أن البيفيدوباكتيريا تتغذى على سكريات حليب البشر، لذا يمكن لجزئيات السكر أن تساعد على تكاثر البكتيريا المفيدة، وبالتالي يمكن لذلك أن يساعد المرضى الذي يعانون من ضعف المكيروبات الموجودة في أمعائهم. وتشير التجارب التي أجريت مؤخراً على سكريات الحليب البشري عند استخدامه كعلاج لهذه الحالة بأنها طريقة آمنة، وبأن الجسم قد تحملها تماماً، كما بوسعها أن تخلف أعراضاً، على الرغم من أن تلك التجارب قد أجريت إما على نطاق ضيق أو كانت تفتقر إلى مجموعات للمراقبة، ولذلك تجرى حالياً تجارب أكثر دقة في هذا المجال.
فوائد الإرضاع عبر الأنف
ظهرت نتائج أخرى مثيرة للاهتمام عند دراسة عملية الإرضاع الطبيعي بحد ذاتها، إذ عندما يقوم الرضيع بالرضاعة، تدخل كمية من الحليب عبر تجويف أنفه، لذا من الممكن برأي العلماء أن تصل تلك الكمية إلى الدماغ، وفي دراسة مصغرة أجريت في عام 2019، قام أطباء في مشفى الأطفال بكولونيا بإدخال حليب الأم عبر أنف 16 خديجاً يعاني من أذية دماغية، فتراجعت نسبة الأذية الدماغية لدى هؤلاء الرضع، وأصبحت الجراحة التي كانوا بحاجة لها أصغر من تلك التي احتاج إليها الخدج الذين لم يخضعوا لهذه المعالجة.
كتبت تقارير أخرى عن نتائج مشابهة في أيار الماضي، وذلك على يد باحثين لدى مشفى أمراض الأطفال بتورنتو، إذ في دراسة قصيرة عن السلامة، قام الباحثون بإعطاء خدج حليب الأم عبر الحقن بالأنف ليكون ذلك علاجاً وقائياً للنزف الدماغي، وبعد مرور سنة ونصف على ذلك، أصبح الرضع الذين تلقوا هذا العلاج يبدون تطوراً حركياً وإدراكياً أفضل، كما قلت مشكلات النظر لديهم، مقارنة بمن تغذوا على حليب أمهاتهم بالطريقة المعتادة. لذا، على الرغم من الحاجة لإجراء تجارب أكبر للتأكد من صحة هذه النتائج، يبدو بأن الخلايا الجذعية الموجودة في الحليب تعمل على إصلاح بعض الأضرار.
من المبكر جداً أن نجزم بأن الاستعانة بعقاقير فعالة يمكن أن يفضي إلى نتيجة مفيدة في هذا الصدد، ولكن العلماء المتخصصين بدراسة حليب الأم صاروا يشعرون بأن كل ما درسوه كان مبرراً، إذ يرى بروس جيرمان من جامعة كاليفورنيا بأن إهمال دراسة حليب الأم لا بد أن يصنف "على أنه أكبر الأمور المحرجة في تاريخ العلم".
المصدر: The Economist