هل تقتصر مهمة الأنبياء على إصلاح البشر وهدايتهم جميعًا؟ قد يبدو الجواب مفاجئًا، لكن الحقيقة أن الإجابة هي "لا". فذلك يناقض طبيعة البشر وسننهم. إن الاختلاف ومعارضة الحق واتباع الهوى جزء من السلوك الإنساني، كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ..)، هود: 119. وأكد الله عز وجل على قلة المهتدين وشيوع الضلال في قوله تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، يوسف: 103، وقوله أيضاً: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، يس: 7. وهذه الآيات، وغيرها، تشير بوضوح إلى أن الضلال هو السائد، وأن الإيمان نادر، وهي سنة ثابتة في حياة البشر.
لا يمكن أن نأمل في هداية الجميع، ولهذا واسى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع عديدة من القرآن لشدة حزنه على من أصروا على الكفر. قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، الكهف: 6، وقال أيضاً: (..فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)، فاطر: 8.
ولم يكن الإسلام ولا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم استثناءً من هذه السنة، بل أكد النبي الكريم هذه الحقيقة من خلال أحاديث عديدة، منها إخباره عن افتراق أمته على سبع وثلاثين فرقة، وأنهم سيتبعون سنن الأمم السابقة خطوة بخطوة، وأن كثيرًا من أصحابه سيُبعدون عن الحوض لارتدادهم القهقرى... وغيرها من الأخبار التي تدل على انتشار الفتن وانحراف بعض الأمة.
إذاً، إن لم تكن مهمة الأنبياء هداية كل البشر، فما هي إذن؟ إن الغاية العظمى للأنبياء وهدف رسالاتهم يتجلى في تبليغ ما أنزل الله عليهم من الوحي، وبيان معالم الدين بوضوح جلي، كما قال تعالى: (..لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)، الأنفال: 42. فالأنبياء لا يملكون إلا أن يؤدوا الرسالة، كما قال الله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، النحل: 35، وأكد في قوله: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، النور: 54. كما قال جل شأنه على لسان رسله: (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، يس: 17.
فالأنبياء، رغم أنهم بذلوا جهودهم في هداية الناس وسلكوا طرق النصح والموعظة والجدال بالحسنى، وضحوا بحياتهم من أجل ذلك، إلا أن مهمتهم الأساسية لا تتمثل في هداية الجميع. بل، إن دعوتهم تتوقف عند تبليغ الرسالة بوضوح، فلا يُجبر أحد على الإيمان، وهي ليست وظيفة الأنبياء فحسب، بل يُكلف كل إنسان بهذه المهمة النبيلة، كما جاء في قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، فصلت: 33. وأيضاً في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، النحل: 125.
إنما يُطلب من الأنبياء والمؤمنين جميعاً أن يدعوا إلى الحق بصدق، بقلوب مخلصة وبأسلوب حكيم، فيما تبقى الهداية المطلقة بيد الله وحده، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الأعلم بمن استحق الهداية ومن أصر على الضلال.
ومع أن الأنبياء قد تحملوا مسؤوليات عظيمة، إلا أن إقامة دولة عادلة لم تكن المهمة الأساسية التي بُعثوا من أجلها. كما أن سعيهم لهداية البشر كافة ليس هو الغاية المطلقة من رسالتهم. النصوص الدينية تخبرنا أنهم عليهم السلام لم يسعوا إلى إقامة دولة أو حكم إلا عندما توفرت الشروط الضرورية لذلك، ومنها وجود عدد كافٍ من الأنصار. وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا الأمر بوضوح في قوله: «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها..». نهج البلاغة: ج1، ص26.
ومع ذلك، فإن هذه المسؤوليات، كإقامة دولة عادلة أو هداية البشرية جميعها، تتوقف على توفر الظروف الملائمة، وليست هي الوظيفة الأساسية التي أرسلوا لأجلها. فمهمة الأنبياء تظل، في جوهرها، هي تبليغ رسالات ربهم وبيان الحق للبشرية.
وهذا يتسق مع ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام حين قال: «لما حضر النبي صلى الله عليه وآله الوفاة نزل جبرائيل عليه السلام فقال له: يا رسول الله، هل لك في الرجوع؟ قال: لا، قد بلغت رسالات ربي. ثم قال له: يا رسول الله أتريد الرجوع إلى الدنيا؟ قال: لا، بل الرفيق الأعلى...». أمالي الشيخ المفيد، ص53.
هكذا يتضح لنا أن دور الأنبياء الرئيسي يكمن في أداء رسالتهم السماوية بصدق وإخلاص، وليس في بناء الدول أو تحقيق الهداية الشاملة، إذ إن هذه الأمور تأتي وفقاً لشروط وأسباب تختلف عن تلك التي تتعلق بمهمتهم الجوهرية.
من هذا المنطلق الجوهري، يمكننا أن نقترب بفهم أعمق للعديد من المسائل المهمة. إحدى هذه المسائل تتعلق بتقييم نجاح الأنبياء والرسل وأوصيائهم الأئمة عليهم السلام. فقد يظن البعض أن الأنبياء لم يحققوا النجاح المطلوب، لأن غالبية الناس رفضوا دعوتهم وابتعدوا عن الحق. لكن الرد على ذلك يأتي مما سبق، وهو أن الأنبياء عليهم السلام لم تكن مهمتهم هداية الجميع، بل كان دورهم مقتصراً على تبليغ رسالات الله سبحانه وتعالى، بصدق وأمانة، سواء استجاب الناس أم لا. فهذه المهمة، بنجاحها أو عدمه، لا تُقاس بعدد المهتدين، وإنما بتأدية واجب البلاغ كما أمرهم الله.
ومن هذه الفكرة أيضاً يمكننا استخدام هذا الأصل كمعيار لفهم غاية الإمام الحسين عليه السلام في نهضته، وكذلك لفهم مسار حركة الأئمة عليهم السلام بشكل عام. فلم تكن غايتهم إقامة حكومة أو تأسيس دولة بحد ذاتها، بل إن هذه المسألة كانت مرتبطة بشرط أساسي وهو "وجود الناصر" من حيث العدد والعدة الكافيين. إن عدم تحقق هذا الشرط لا يلغي من عظمة دورهم، بل يؤكد أن مهمتهم الرئيسية كانت دائماً الدعوة إلى الحق والقيام بما يُمليه عليهم واجبهم الرباني، في كل ظرف وزمان.
إن هذه النظرة تُعيد تشكيل فهمنا للتاريخ النبوي والإمامي، وتوجهنا نحو تقدير الجهد الجوهري الذي قاموا به، بعيداً عن النتائج الدنيوية الظاهرة التي قد يراها البعض معياراً للنجاح أو الفشل.