مصادفةً من غير تعمّل، واتفاقاً من دون تعمّد رأيتُ برنامج "قصتي" من على قناة الرَّابعة من تقديم علي صادق، وهو – على ما يبدو – رجلٌ مثقَّف يحسن إلقاء السؤال ولكنَّه يفتقر لثقافة الاستماع، وتلك أزمة عامَّة يعيشها مقدّمو البرامج جميعا.
وكان ضيف الحلقة الممثلة العراقيَّة عواطف نعيم، قالت: إنَّها أسِفَت لرؤيتها تفجير منارة الحدباء في الموصل كما أسِفَت لتفجير تماثيل بوذا في أفغانستان!
وزعمت أن الموصل سُرقت وأن حضارتها هي من استردَّتها من أيدي الدَّ.....ش.
والعجيب – تعليقاً على كلامها – أنَّها لم تهتز لتفجير منارة الإمامين العسكريين – عليهما السَّلام – وقبتيهما، ولم تذكر فتوى المرجعيَّة العليا وفضلها على تحرير الموصل من براثن الاحتلال.
تزعم أنَّ زوجها بعد أن ضغط النظام عليه هرب إلى سوريا ثمَّ منها إلى الامارات، وقد لحقته بعد ثلاثة أشهر إلى الامارات حتى أصابها مرض الحنين إلى الوطن فلم تشرب وتأكل حتى رجعت إلى العراق بناءً على وصية الطبيب المختص وهو عراقيٌّ مقيمٌ في الامارات.
وتعليقاً على كلامها أخرى المعيار في حبِّ الوطن هو قيمة الخدمة التي يقدّمها الإنسان إلى وطنه؛ ولذا يمكن القول من غير مبالغة أنَّ السيد السيستاني – دام ظلُّه – هو أكثر عراقيَّةً ووطنيَّةً منَّا جميعا بحكمته وحنكته ومواقفه.
وقد جاء زوجها يوماً ما إلى الإذاعة لتسجيلٍ عملٍ دراميٍّ، وكان موضع تندّر الجميع بسبب تسريحة شعره المضحكة ولمَّا كنتُ مسؤول الماليَّة في وقتها دار بيننا حوارٌ طويلٌ في الدّراما العراقيَّة، حوارٌ يجمع بين المتلقي والفنان، ولمستُ في ثنايا كلامه حنيناً إلى الماضي الجميل، لا يبوح به ولكن يخرج على فلتات لسانه رغما عنه "واللهُ مُخرِجٌ ما كنتم تكتمون" ونقداً للنظام الحاكم الآن، وهذا شاهدٌ على عدم صدق رواية أنَّه هرب من العراق إلى الإمارات، فلعلَّه ذهب إلى هناك لحضور مهرجان أو للقيام بعملٍ فنّي.
وكان حزيناً لما قام به رئيس النظام آنذاك بحق الفنِّ العراقيّ،
ذلك يوم أنتج العراق فلم القادسية يستذكر انتصار الجيش العربي بقيادة سعد بن بي وقاص على الجيش الفارسي بقيادة رستم، كان ذلك في أول نشوب الحرب العراقيَّة – الإيرانيَّة سنة 1981، وكان قد شارك فيه ممثلون مصريون معروفون أمر الرئيس أن يعطى الممثل المصري ضعف أجر الممثل العراقيّ مع أنهم كانوا كباراً أيضاً بحسب قوله.
وتساءل بمرارة قائلاً: لم هذه التفرقة؟
قلتُ له أريد استفزازه: لو كنتُ مكانك لما قمتُ بالتمثيل ما دام لم يُقدِّروا قيمتي كفنَّان!
قال: ومن يستطيع الرَّفض؟
وأزعم أنَّه وأخوته من الممثلين العراقيين كانوا مسرورين بالمشاركة في العمل مع نجوم الفنِّ المصريّ، بل أجزم أنَّهم كانوا على استعدادٍ للتمثيل من دون مقابل فكانت تلك فرصةً للشهرة عربياً– هكذا ربما قدَّروا – فحتى لو أدَّى العمل من غير مقابلٍ ففي الشهرة العريضة ما يوازي الأجر الماليَّ وزيادة.
والحمد لله فشل الفلم فشلاً ذريعاً، فقد تدخلت الرؤى الحزبية في الإخراج والسيناريو والأدوار حتى لم يعد يسمع به أحد، وقد أريد له أن يكون كفلم الرسالة.
والممثل العراقي ممثلٌ متكبّر، ولعلَّ سرَّ تكبّره عقدة النقص التي يعيشها أمام الممثلين المصريين عربياً والكويتيين خليجياً، ولهذا حين كان يأتي أحدهم للإذاعة وأطلب بطاقته الشخصيَّة لإرفاقها مع المستند المالي يمدُّ يده بتعالٍ وكأنَّه يعطي صدقة وليس يناول بطاقة، ولكن حين أدعوه ليتسلَّم أجوره يُخاطبني ب "الأستاذ"!!
ولكنَّه في العمل مريح، ومحترف، فقد اتفق في بعض المرَّات أن أكون المنصت اللغوي في الاستوديو، حين أطلبُ منه الإعادة للجملة التي أخطأ في تلفظ بعض كلماتها أو تشكيل بنيتها الصرفيَّة، فإنه يعيد من غير تأفّفٍ وتذمّر، أما أصحابنا فيفتعلون المشاكل وعليك أن تقسم بأبي الفضل العبَّاس – عليه السلام – أنه قرأ الجملة بصورةٍ غير صحيحة، وتأتي بقسامةٍ من خمسين شاهداً على ذلك!
وكان بعضهم يحاججني حتى آتي له بالحكم من كتب النحو، وبنية الكلمة من قواميس اللغة ليعيد قراءة الجملة، وحُجَّته في الحجاج أنَّه يقرأ على السليقة!!
وتسأل عن سليقته هذه من أين جاء بها، فيزعم لك أنَّها من قراءة التقارير ونشرات الأخبار!
وأسوأ ما في الإذاعات جميعاً نشرات الأخبار، تشعر بأعراض الحمل حين تصحيحها، شيءٌ يشبه الغثيان، ودوارٌ ورغبةٌ في القيء.
وتحسب - حين يناقشك الحساب على وفق سليقته - أنَّه ارتضع في بادية بني سعد بين ثغاء الخروف ورغاء البعير، وترعرع في حاضرة قريش بين نَشر الشيح وشذا القيصوم.
والحمد لله إذ خلّصني الله تعالى من الانصات اللغوي، ونجَّاني من المسؤوليَّة الماليَّة، فلا أرى جماعة السليقة ولا يرونني، وصرتُ على الإعداد والكتابة.