إن الجواز، والإباحة، ونفي البأس التي يُفتي بها الفقيه في شأنِ فعلٍ ما بعد عمليّة صناعيّة آليّة، لا تعكس تشجيع المُشرِّع على عمل ذلك الفعل، ولا تدلُّ على إرادته في إيجاده وتحقّقه خارجاً، وإنّما غاية ما يعنيه الجواز ونفي البأس في الفعل والترك، أن الفعل غيرُ محرّم (نفي البأس في الفعل)، وغيرُ واجبٍ (نفي البأس في الترك)، وأمّا رغبة المُشرِّع وإرادته في أن نفعله ونحقّقه خارجاً، أو أن نتركه، فهذا ما لا يمكن استفادته من الجواز، إذ معنى الجواز عدم وجود حكم إلزامي في المقام فعلاً وتركاً.
إذن هناك فرق بين جواز الفعل وبين التشجيع عليه، فالتشجيع على الفعل يعكس إرادة المشرّع ورغبته في أن يتحقّق الفعل خارجاً من المخاطَب، وكونه محبوباً للمشرِّع، وهو أي المحبوبية والتشجيع لا يمكن استفادته من دليل الجواز نفسه، بل لا بُدَّ من التماسه من دليل آخر يدلُّ على تحبيذ الفعل والتشجيع عليه، أو على تشجيع وتحبيذ تركه، في حين أن الجواز لا يدل على كل ذلك.
ويمكن أن نذكر مثالاً لذلك، وهو ما جاء في صحيحة جميل بن درّاج، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سؤر الدوابّ والغنم والبقر، أيتوضّأ منه ويشرب؟ قال: لا بأس. [الوسائل، ج ١، ص ٣٤٤، الباب ١ من الأسئار، ح ٤]. فنفي البأس هنا غاية ما يدلُّ عليه هو الجواز والإباحة، أمّا أنه محبّذ أو غير محبّذ على مستوى الاستحباب والكراهة؟ فهذا يحتاج إلى دليل آخر، ولذلك نجد الفقهاء الذين أفتوا بكراهة الوضوء والشرب من أسئار البغال والخيل والحمير الأهليّة [رغم كونها مشمولة برواية جميل بن درّاج القاضية بنفي البأس في الوضوء والشرب من أسئار الدواب] قد استندوا في هذه الكراهة إلى أدلّة أخرى غير رواية نفي البأس هذه، من قبيل التمسّك بمفهوم رواية سماعة، قال: سألته هل يشرب من سؤر شيء من الدواب ويتوضّأ منه؟ فقال: أما الإبل والبقر والغنم فلا بأس، [الوسائل، ج ١، ص ٣٤٤، باب ٥، ح ٣]، فهي تدلّ بالمفهوم على ثبوت البأس في غير الإبل والبقر والغنم، وثبوت البأس بالمفهوم وإن كان عاماً يشمل الحرمة والكراهة كما هو واضح، ولكنهم حملوا البأس على الكراهة بدلالة روايات نفي البأس الدالة على جواز الوضوء والشرب من سؤرها.
والالتفات إلى هذا المطلب مهمٌّ جدّاً في الأفعال المباحة التي تأخذ بُعداً اجتماعيّاً، وتشكّل ظاهرة جماعيّة عامّة بالتدريج، فإذا كانت الصناعة الفقهيّة المنتِجة للجواز والإباحة لا تعكس رغبة المشرِّع في تحقيق الفعل وإيجاده خارجاً، فهي من باب أولى لا تدل على رغبة المشرِّع وإرادته حين يتحوّل الفعلُ إلى ظاهرة جماعيّة، قد تترتّب عليها آثار وتداعيات ومآلات، لم تكن موجودة في الفعل بما هو سلوك فردي صرف.
ولذلك، فما نجده في بعض الكلمات من محاولة تبرير سلوك جماعي معيّن، والتشجيع عليه بالاستناد إلى جوازه الفقهي، غير صحيح بالمرّة، والصحيح أن يتم النظر إلى الفعل حينئذٍ بوصفه سلوكاً عامّاً وظاهرة جماعيّة من جهة ما يترتّب عليه من آثار وتداعيات، ومن جهة انسجامه مع الاتجاه التشريعي العام، وبما يعكسه من صورة عن الشريعة وعن المجتمع الإسلامي، وسائر الأمور الأخرى التي تترتّب على الأفعال بوصفها سلوكاً جماعيّاً، وظاهرة اجتماعيّة، لنعرف هل تشجّع عليه الشريعة وتُحبّذه أم لا؟