ملاحظة قبل البدء
لابد أن يلتفت القارئ الكريم أنه ليس من السهل سرد قصة المسيحية باختصار ووضوح، وبالخصوص بداياتها، فقد أُلف حول القرن الأول للمسيحية من الكتب والدراسات ما يفوق باقي القرون، على أننا نعد القارئ بأننا سنعمد على تأطير القصة بما لا يتقاطع مع ما ذكره القرآن الكريم، باعتباره مصدر معصوم وموثوق، وأما التفاصيل فسنعتمد فيها على ما جاءت به أهم مصادر المسيحية لا سيما الأناجيل المتداولة، و"رسائل الرسل" في العهد الجديد، فهي وإن لم تُحفظ عن التحريف إلا أنها تبقى بقوة المصدر التاريخي، فقد خضعت لأبحاث عقول كبيرة أكثر من أي كتاب آخر في التاريخ، وكان النقد التاريخي مشغولاً بها خلال المائة سنة الأخيرة، وقد انتهى الى إجماعهم على أن الديانة المسيحية قد حُرفت عما جاء به عيسى عليه السلام، وإن لم يكن هناك إجماع على مقدار هذا التحريف. كما ذهب هؤلاء الى أن عيسى عليه السلام "يسوع" لم يدون تعاليمه بنفسه، وإنما اعتمد على تلاميذه في التبشير بها، وأن بعض هؤلاء التلاميذ قد دونها بعدما رفعه الله ــ بحسب أدبياتهم (بعد موته) ــ متضمنة لتفاصيل الظرف التاريخي الذي كانوا يمرون به، كما أننا نجد كتابات هؤلاء ـ تسمى في أدبيات علم النقد الأعلى (وثائق) ــ قد تلونت بتحيزات المسيحيين الأوائل، وأضيفت اليها أقوال تنسب خطأ لعيسى "يسوع".
وهذا ما يجده الباحث واضحاً في إنجيلي "متى ولوقا"، وقد استخدم هذا المؤلفان قدراً كبيراً من مادة شفوية أخرى، كما أنهما استفادا كثيراً من إنجيل "مرقس"، والذي يُعد أقدم الأناجيل حيث كُتب (66 ــ 70) للميلاد، اي بعد وفاة السيد المسيح بما ينيف عن 35 سنة، بينما لم يُكتب إنجيل يوحنا حتى نهاية القرن الأول، والذي تضمن الإضافات اللاهوتية الخطرة والكبيرة التي جاء بها بولس، والتي شكلت المسيحية كما هي عليه اليوم.
وضع فلسطين زمن ولادة عيسى
ولد عيسى عليه السلام في بلد خضع مؤخراً للسيطرة الرومانية، وقد كانت قُبيل احتلالها قد قسمها الملك اليهودي "هيرودوس الكبير" على أولاده الثلاثة، والذي مات قبل ولادة المسيح بأربع سنين ــ بحسب التقويم الحالي ــ، وجعلوا البلاد ثلاث مقاطعات، وبعد احتلالها أسرع الأبناء الثلاثة الى روما لتثبيت ميراثهم.
وأما منطقة الجليل ـ وهي التي انتشرت فيها دعوة عيسى في بداية أمره ـ فكانت تخور فيها مجموعة من التيارات الدينية المتصارعة، رغم أن اليهود لم يكونوا هم الأكثرية فيها، من تلك التيارات كان الأحامس (الغيورون) هم الأخطر، لإيمانهم بالعنف، وقد تمكن "يهوذا الجليلي" بمعونة أحد أتباع الفريسيين يدعى "صدوق" بتنظيم جيشاً من أصحاب الطباع الحادة وتمردوا على الرومان، وبعد مداهمة مدينة "سيفورس" جرد الرومان فرقتين للقضاء على التمرد، وقد تم لهم ذلك.
بينما كانت بقية التيارات الدينية اليهودية تميل للموادعة، إما بسبب انتظارهم المسيح المخلص، أو لكونه مقتضى الحكمة، وقد مثل الاتجاه الأول "الفريسيون" يرشدهم الى ذلك "الحاخامات"، بينما مثل الاتجاه الثاني الأسينيون.
ولادة عيسى عليه السلام
لا يمكن أن يحدد بدقة تاريخ ميلاد عيسى عليه السلام، فقد جاء في إنجيل "متى" (2:1): أنه ولد: (في أيام هيرودوس الكبير)، ومن المعروف تاريخياً أنه قد توفي في العام الرابع قبل الميلاد. كما جاء في إنجيل لوقا (3: 1-2 و 23): ان يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) قد بدأ الوعظ في العام الخامس عشر من عهد الامبراطور "تيبيريوس" سنة 26 أو 27 بعد الميلاد، وكان عمر يسوع (عيسى عليه السلام) زهاء الثلاثين، عندما بدأ كرازته (تبشيره ودعوته النبوية)، وعندما نعود في الزمن الى الوراء، نضطر الى اعتبار ان ميلاد عيسى عليه السلام كان قبل الميلاد المعروف حالياً بأربع او ست سنين.
يقابل ما تقدم ما جاء في إنجيل لوقا في موضع آخر (2: 1-4): إن يسوع قد ولد في أثناء إحصاء النفوس الذي أمر به القيصر "أوغسطوس" عندما كان "كيرينوس" حاكم سوريا (6-9) بعد الميلاد المعروف.
وبالنسبة لمكان ولادة عيسى عليه السلام، فالمشهور بينهم أنه ولد في "بيت لحم"، وهو المذكور في إنجيلي "متى ولوقا" لكن هذه النسبة قد شكك بها الكثيرون، لاحتمال تأثر الكاتبين برغبة الكنيسة الباكرة في تأكيد أن عيسى عليه السلام من نسل داود، هذه المسألة التي طالما كانت الخلاف الرئيس بين المسيحيين الأوائل وباقي اليهود، حيث كانت علامة المسيح الموعود عند اليهود أن يكون من نسل داود عليه السلام، وبما أن بيت لحم هي المدينة التي سكنها داود فيكون إثبات العلامة أسهل.
وأما المدينة التي عاش فيها عيسى حتى بلوغه الثالثة عشرة، فبحسب المصادر المسيحية قد كان مدينة "الناصرة".
وقصة ولادته عليه السلام معروفة قد فصّلها القرآن الكريم بوضوح، ونحن هنا بصدد بيان تاريخ الديانة، ولسنا بصدد ذكر تفاصيل حياة النبي عيسى عليه السلام.
وتذكر الاناجيل تفاصيل بداية تبشيره ودعوته، حيث تذكر أنه عليه السلام ابتدأ في الكُنس، وعندما كبرت الحشود أكثر من أن تستوعبها الكُنس، أخذ يعض في ميادين الأسواق.
ويحتوي الفصل الأول من إنجيل مرقس وصفاً وافياً لما جرى ليسوع في يوم السبت الأول في كفر ناحوم، فبعد خطبة أذهلت الحضور، ومؤثرة قاطعه شخص ممسوس بالشيطان، قائلاً: (.. مالنا ولك يا يسوع الناصري؟ أتيت لتهلكنا! أنا أعرفك من أنت: أنت قدوس الله ! فانتهره يسوع قائلاً: أخرس واخرج منه! فصرعه الروح النجس وصاح بصوت عظيم وخرج منه). وهنا اندهش الحضور قائلين: (ماذا يعني ذلك؟ إنه تعليم جديد! إنه يصدر الأوامر بسلطة حتى للأرواح الخبيثة، وتطيعه). وذاع صيته على الفور في كل الانحاء.
وبعد الخطبة في الكنيس ذهب يسوع مع تلامذته الى بيت تلميذه "سمعان بطرس" ويصدف أن حماته مريضة بالحمى، وطريحة الفراش، قأقبل يسوع ومسكها من يدها وأنهضها، (وفارقتها الحمى، وصارت تقوم على خدمتهم).
(وفي المساء بعد الغروب أحضروا اليه كل الذين كانوا مرضى أو ركبتهم الشياطين، وتجمعت المدينة كلها عند الباب. فأبرأ الكثيرين). وفي الصباح الباكر قبل سطوع ضياء النهار غادر المنزل، وانطلق الى بقعة موحشة ليصلي فيها، فبحث عنه سمعان وصحبه، ثم جاء الآخرون وقالوا له: (إنهم جميعاً يبحثون عنك)، فأجابهم: (لنذهب الى مكان ما، الى المدن الريفية المجاورة، لعلي أخطب فيهم واعظاً أيضاً، لأني لهذا السبب قد خرجت الى هنا).
على أن تجربته في المدن الأخرى كانت كتجربته في كفر ناحوم، وفي بضع أيام لم يعد يستطيع أن يدخل الى المدن جهاراً بل كان يبقى في الأماكن التي لا يطرقها الناس، ويأتيه الناس من كل صوب، وكانت شعبيته هائلة والناس يهرعون اليه.
وعندما عاد ثانية الى كفر ناحوم (تجمع حشد غفير حتى أنه لم تعد هناك فسحة حول الباب)، وفي مناسبة أخرى تجمع على امتداد شاطئ البحيرة أناس كثيرون لدرجة أن يسوع اضطر للجلوس في زورق.
المعارضة اليهودية
بسبب ما أثاره عيسى عليه السلام في نفوس بني إسرائيل، تحرك ضده وبنحو عاجل الفريسيون (حراس الشريعة)، والصدوقيون (حراس الهيكل)، فأرسلوا خلفه من يأتيهم بأخباره، ثم أرسلوا من يعارضه بالحجج الدينية، منها اعتراضهم على شفائه للمرضى يوم السبت، وفي شريعتهم يحرم عمل الأطباء فيه، وكان أكثر ما يثير حفيظتهم، تصريحه عليه السلام بشريعة تخالف شريعة سلفهم، من هنا راحوا يشيعون أن روحاً شريرة تمكنت من يسوع، وهي من تضله وتغويه!
ويبدو إنهم نجحوا في ذلك، فقد ارتد كثير من الناس شكاً وإحباطاً.
وفي هذه الأجواء تقدم يسوع باتجاه الشمال الغربي الى المناطق الواقعة حول صيدا وصور ثم الى جنوب سوريا، ويستمر السرد في القول أن النبي عيسى عليه السلام أخبر تلاميذه بنيته مواجهة الموت في سبيل إتمام الدعوة، فقرر أن يتجه نحو أورشليم أيام عيد الفصح.
وفعلاً، جاء اليهود من كل حدب وصوب الى أورشليم، كما انتقل الوالي الروماني "بيلاطس" الى المدينة قادماً من "قيصرية" الساحلية لتأمين ضبط النظام وعدم ظهور أي عصيان، كما جاء "هيرودوس انتيباس" من الجليل للاستمتاع بالاحتفالات والتظاهر بمحافظته على المراسم اليهودية، وغصت المدينة بالزائرين، فلم يبق متسع في خانات المسافرين، جاء الجليليون للإقامة في خيام بين المدينة وجبل الزيتون، وكان الكثير منهم يعرف عيسى عليه السلام، فلما نزل من جبل الزيتون رحبوا به بصيحات الفرح وأغصان الزيتون، حتى عرفه أهل أورشليم، فقالوا: (هذا هو يسوع، نبي الناصرة في الجليل).
وتذكر الاناجيل أنه باشر بطرد الصيارفة والتجار من باحة الهيكل، وقام خطيباً وواعظاً عدة أيام، وحاول اليهود طيلة هذه الأيام مماحكته ومعارضته في مختلف المسائل، ومن ذلك محاولة إحراجه عندما رفض التصريح ضد دفع الجزية للإمبراطور، فسُئل: أمن الصواب أم لا دفع الضرائب لقيصر؟ فأجاب: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله. مما ساعد على تفرق اليهود من حوله.
وفي الوقت الذي كان فيه عيسى عليه السلام في بستان "جتسماني" وشى به "يهوذا" فسارع الجنود الرومان وشرطة اليهود باعتقاله، باعتباره مخلاً بالأمن!!
تم إحضار عيسى عليه السلام للمجلس الأعلى للقضاء عند اليهود "السنهدرين" وبعد الاستجواب تمت إدانته باعتباره مثيراً للفتنة ومعادٍ لروما، وتم تسليمه للوالي الروماني "بيلاطس" والذي بدوره حوله الى "هيرودوس انتيباس" باعتباره حاكم الجليل، إلا أنه رفض استلامه وأعاده له، فقرر "بيلاطس" إخلاء سبيله أمام الحشود، إلا أن الجمهور اليهود نادوا بإطلاق سجين آخر اسمه "برأبا" بدلاً عن عيسى عليه السلام.
فتم صلبه ـ بحسب الاناجيل المتداولة ـ والحق أنه خُيل لهم ذلك، قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، النساء: 158.
العصر الرسولي
حسب شهادة الاناجيل، تفرق الحواريون وفروا، في زمن توقيف يسوع في بستان "جتسماني"، ولم يجرؤ أحد منهم من الاقتراب من مكان الصلب باستثناء يوحنا، وكان بطرس قريباً عندما كان يسوع يُحاكم، ولكنه عندما تعرفت عليه خادمة، أنكر ذلك.
وتنسب الأناجيل التبشير بقيامة يسوع ـ عودته للحياة بعد موته ـ لتلاميذه، وقد نجحوا في حشد الكثير من المؤيدين لهم، حتى أن اليهود أحضروا بطرس ويوحنا الى "السنهدرين" وأمروهما بالكف عن التحدث عن عيسى، لكنهما واصلا التبشير، فأعيد اعتقالهما ضمن جماعة آخرين، ولم يفرج عنهم إلا بسبب مقترح لأحد أعضاء السنهدرين، قائلاً: إن الحركات المتحمسة للمسيح المنتظر تموت بموت مؤسسها، ولذلك فلندعهم وشأنهم. فاكتفت السلطات بجلدهم.
وكان هذا السبب ـ أقصد أمل اليهود بتفكك اتباع عيسى ـ وسبب آخر وهو حرص اتباع عيسى على اتباع شريعة بني إسرائيل، فقد كان يُنظر اليهم كأحد الفرق اليهودية، وليسوا أصحاب شريعة أو دين مختلف، كان هذان السببان كفيلين بالمحافظة على الدعوة المسيحية في هذه الفترة، رغم التزامهم ببعض الخصوصية، كاعتبارهم عيسى عليه السلام هو المسيح الموعود، وأنه سيعود على الغمام لينتقم، وكانوا يتلاقون في بيوت خاصة، كبيت أم يوحنا مرقس في أورشليم.
لكن لم يكن جميع اتباع عيسى كذلك، فقد بدأ بعضهم بالأخذ بالتسهيلات الواردة في شريعة عيسى، والتي حكى القرآن عنها في قوله تعالى: (.. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ..)، آل عمران: 50.
من هنا برز تيار جديد بين المسيحيين، عرف بالتساهل في أحكام التوراة، مما جعله تحت طائلة الاضطهاد اليهودي، ومنذ ذلك الحين فصاعداً صار للحركة المسيحية في فلسطين حزبان من داخلها، لم يفقدا ترابطهما تحت اسم يسوع، لكنهما كانا يتصارعان في تقديم تفسير لمقاصد المسيحية، فمال أغلب الحواريين ـ حسب الاناجيل ـ لصالح الفريق الملتزم بشريعة التوراة، على رأسهم "يعقوب" والذي صار رئيساً لكنيسة أورشليم، فكانوا يعتقدون عدم كفاية اتباع عيسى، بل لابد من العمل بشريعة موسى عليهما السلام، في ضرورة الختان قبل التعميد، والتقيد الشديد بالطهارة، والامتناع عن مجالسة غير المختونين على مائدة واحدة. إلا أن الأمور بدأت تميل للمتساهلين حتى غدا المتشددون جماعة مغلقة على نفسها سميت بـ"الأبيونيين" او "النصارى" أو "المتهودين".
ومع ذلك، فأن المتحررين كانت لهم الغلبة، وأعادوا تكوين المسيحية، بحيث انتشرت بسرعة بين الأقوام غير اليهودية، وكان زعيم هذا التيار رجل من طرسوس يُدعى "شاؤول" (بولس).
بولس وانتشار المسيحية في أوربا
كثيراً ما دعي بولس "المؤسس الثاني للمسيحية" والحق أنه وعلى يديه تم القضاء على الجناح المحافظ فيها، والذين كانوا يدعون بـ"المتهودين" ففقدوا أهميتهم في المجتمع المسيحي، لكن تكمن أهمية هذا الرجل في أنه تمكن من نحت مجموعة من المفاهيم مكنت المسيحية من الانتشار بين أوساط أوربا الوثنية. فمن هو بولس؟
هو يهودي من خارج فلسطين، من أسرة ميسورة، ويرجح أنه اشترى المواطنة الرومانية، ولد في زمان مقارب لزمن ولادة النبي عيسى عليه السلام، في طرسوس (بلدة تركية على ساحل البحر المتوسط)، والتي كانت حينها مدرسة مهمة لتدريس الفلسفتين الرواقية والكلبية، ومن مبادئهما السعي للتماثل مع الآلهة، ومن المحتمل أن بولس قد استفاد فكرة ألوهية عيسى منهما. رغم ذلك يبدو أنه لم يتأثر كثيراً بالثقافة اليونانية، بل بقي أميناً لديانته اليهودية، وذهب الى أورشليم ليتعلم في مدارس الفريسيين، فكان يهودياً متطرفاً، وشارك بفاعلية في اضطهاد المسيحيين الأوائل.
وعندما فر المسيحيون شمالاً الى دمشق وما ورائها، ذهب الى رئيس الكهنة ليطلب أن يُسمح له بالقبض عليهم، وجلبهم مقيدين بالسلاسل، ثم يدعي سفر الرسل، أنه حدثت له حادثة في الطريق فقد على أثرها بصره، وادعى انه سمع صوتاً يقول له: شاؤول لماذا تضطهدني؟ أعمال الرسل 9: 4، واقتيد الى دمشق من يده، واستمر ثلاثة أيام فاقداً للبصر، ولم يستطع الأكل ولا الشرب.
بعد هذه الحادثة ـ على تقدير صحتها ـ انطلق الى جزيرة العرب في رحلة تفكر وتأمل، ثم عاد الى دمشق، وصار زعيماً مسيحياً فيها، لا فيها وحسب بل كذلك في انطاكيا ثالث المدن الرومانية، وقد اكتسبت المسيحية على يديه زخماً كبيراً، وانتشرت بين أوساط الوثنيين، وبعد ثلاث سنوات زار أورشليم، لتجمع بينه وبين يعقوب وبطرس (تلميذي يسوع) علاقة شخصية، ثم خرج في أسفاره التبشيرية الشهيرة، بصحبة "برنابا ويوحنا الملقب مرقس". وفي رحلته الأولى أبحر الى جزيرة قبرص، ثم انتقل الى آسيا الصغرى (تركيا الحالية) فكون فيها جماعات مسيحية في "برحة وأنطاكيا وأيكونيوم وليسترة ودربة"، وفي رحلته الثانية عاد الى زيارة الكنائس التي كان قد أسسها، ثم تقدم الى طرواس (طروادة) التي أبحر منها الى مقدونيا في قارة أوربا، ثم ذهب جنوباً الى أثينا ثم الى كورنيث، وفي عودته أبحر الى أفسس في اليونان قبل عودته الى الوطن. ثم قام برحلة ثالثة على ذات المسار المتقدم.
كان على طول رحلاته السابقة يركز على أمرين: ربوبية المسيح، وحرية الروح، ومرادنا من حرية الروح، أنه وبخلاف عقيدة اليهود، فإن الهداية لا تقتصر على من التزم بشريعة التوراة، لما وجده من اهتداء الكثير الى المسيحية من غير اليهود.
من هنا جاء تساهله، وعدم إلزامه للأتباع الجدد بأحكام الشريعة اليهودية كما هو المشاهد اليوم عند المسيحيين. فالمسيحي الحقيقي عند بولس هو ما يعمل الفعل الذي يشعر بقلبه أنه صحيح، سواء كان موافقاً للشريعة أو لا!!
وتذكر الاناجيل أنه بسبب هذه المسألة دخل بخلاف شديد مع الجناح الآخر في المسيحية، والذي يدعو الى ضرورة الالتزام بالشريعة، وبعد جدال، بت بالأمر مع بطرس ويعقوب ويوحنا في أورشليم، ففي رسالته الثانية لأهل غلاطية يشير ضمناً الى ان طاعة الشريعة قد صارت مسألة محرجة، وزعم انه بُعث رسولاً الى الأقوام غير اليهودية، كما أن بطرس رسول لليهود، وقد قبل يعقوب ويوحنا رسالته وتبشيره وصافحاه، ولم يطلبا منه إلا جمع تبرعات لصالح مسيحيي أورشليم، وقد وافق على ذلك مسروراً.
وأما البند الثاني للمسيحية فكان يتمثل بـ"ربوبية المسيح"، وقد استفاد منه كثيراً في دعوته وتبشيره، فقد ذكرنا سابقاً أن أكثر اليونانيين كانوا متأثرين بأديان وفلسفات باحثة عن الخلود، وهذا ما وفرته لهم فكرة اتحادهم بيسوع، فقدم بولس إسهاماً أصيلاً في تفسير موت المسيح وانبعاثه، فبحسبه، المسيح كائن قدسي يمتلك طبيعة الله لكنه تواضع ونزل من السماء واتخذ شكلاً بشرياً، ليضحي بنفسه في سبيل تخليص البشر من آثامهم.
وقد سحرت هذه الفكرة الجديدة الناس، فقد صور المسيح بأنه السبب في خلودهم كما أنه الطريق لخلاصهم من آثامهم.
وللإيفاء بما تعهد به ليعقوب ويوحنا من جمع تبرعات لمسيحي أورشليم، فقد رجع اليها محملاً بالأموال، مما دفع اليهود لتقديم شكوى ضده، وبعد القبض عليه تم نقله الى روما باعتباره مواطناً رومانياً، وبقي في السجن مدة، أعدم بعدها باعتباره معكراً للأمن.
انتشار الجماعات المسيحية
رغم أن بولس كان الأشهر في نشر المسيحية، إلا أن هذا لا يمنع من وجود شخصيات أخرى كان لها تأثير كبير، فقبل زمان بولس نجح بعض زعماء المسيحية المبكرة في نقلها الى انطاكيا والإسكندرية وروما، فنسمع عن "برنابا" و"سمعان النيجيري" و "لوسيوس البرقي" و "منئين" و " أبولوس" وسواهم، وقد انهمكوا جميعاً بنشاطات تبشيرية على امتداد الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ثم انتقلت بعد ذلك لوادي دجلة والفرات والى أثيوبيا.