هب الهوا وإندگت الباب.. ثاري الهوا والباب چذاب..
ريت الحبايب علو الإيشان..
واحد شلب والثاني دنان..
حرة ولفت ديرة الغمان..
هي تهدهد لوليدها بصوت شجي وكلمات حزينة، إختصرت تلك السمات التي رسمت على وجهها، إسترسلت لوقت بدا كأنه دهر وهي (تلولي له )، هي موهوبة بالفطرة تحفظ دون أن تكتب، لم تقرأ بحور الشعر ولم تسمع يوما عن القافية أو الوزن كلماتها تنبع من قلبها، بذات الوقت جاء صوت من خارج الدار،(منزل عبارة عن بيت من القصب بنى على چبيشة وهي أرض مرتفعة بنيت من القصب والطين في عمق الأهوار)، صوت شجي يغني الأبوذيات أثناء نزوله من مشحوفه، عائد من الهور وهو يحمل ما إصطاده من السمك،(علي فتى جنوبي أسمر مملوح )، كيف له أن يحفظ هذه الكلمات، وهذا الطور الشجي هو لم يتدرب على الغناء، والمواويل تخرج من قلبه لا من لسانه،(على گولة أهلنا تشك الگلب شگ).
أول سؤالي له: ” أنت ليش هيج مبدع؟! منين جبت هالموهبة؟ “.
فأجاب علي: ” ما أعرف وحگ علي هي هيج تطلع من فكري وأغنيها وأكو هواي بيهن، سمعتهن من أمي وأبوي من أطلع أصيدن سمچ، أونس روحي بالمواويل أغني وأسولف أبوذيات ودارمي “، علي يرتجل الكلمات ويحفظها كما نحفظ نحن أسمائنا، لكن كلمات علي حزينة لا أثر للفرح فيها، لا استغرب أنا أبدا فما رأوه سكان الجنوب طول حياتهم، والإضطهاد الذي عايشوه كفيل برسم حزن أبدي على محياهم، لم ينصفهم الزمن ولم تنصفهم الحكومات.
لنترك اللوم ولنعد لإبداعهم، (تميز أهل الجنوب وبالذات، سكان ذي قار بالملكة الأدبية الإبداعية شعرا ونثرا وغناءً، تجد صغيرهم قبل كبيرهم يمتلك موهبة مميزة، نتاج أدبي مستمر لا ينضب، حيث تزخر المحافظة بمواهب وأسماء لامعة تركت بصمة في المجال الأدبي والحضاري والفني، فالناصرية ولاّدة، لنعد الى التأريخ قليلا لنعرف من أين أتت جذور هذه المواهب، لنعد الى 7000 سنة ق. م، وهو بدء تاريخ حضارة سومر قبل الحضارة العبيدية، كما إتفق المؤرخون على وجودها، حيث قامت أول المدن و أهمها، وهي أور ولگش و أوروك.
مات شومر باللغة السومرية تعني بلاد سومر، وهي أرض سيد القصب، وحكم ملوك سومر قبل طوفان نوح عليه السلام، وتم ذكر النبي إدريس أو هرميس، في الالواح الطينية والذي بعث للسومريين عام 4350 ق. م.
إخترع السومريون الكتابة على الألواح الطينية بالخط المسماري، وإخترعوا العجلة والقيثارة الموسيقية، وهي أول آلة إكتشفت في أور قيثارة سومر، والواح (أنخيدوانا) وهي أول إمراة كاهنة وشاعرة وموسيقية في حضارة سومر، هي إبنة الملك سرجون الأكدي وأول إمراة كاهنة لمعبد إله القمر إنليل، نصبها والدها لمكانتها عنده ولذكائها وفطنتها، وصلت لنا منها مجموعة أعمال مكرسة للآلهة إنانا، (تراتيل المعبد السومري)، وملحمة كلكامش والتي تبدأ باول خمس قصائد سومرية تتحدث عن (بلجاميش)، أي كلكامش باللغة السومرية التي تتحدث عن بطولاته مع أنكيدو لمواجهة الوحش خيمبابا، وبحثه الدؤوب عن الخلود والعبرة العظيمة التي تركها لنا، أن الخلود في العمل الذي يبقى بعدك وليس في طول عمرك على الأرض.
تحدثت مع كتاب وأساتذة ومبدعين، عن سبب تلك المَلَكة وجهت سؤال واحد للجميع (لماذا أهل ذي قار مبدعين؟!).
تحدث لي الدكتور حامد الشطري رئيس قسم الاعلام في كلية مزايا الجامعة و أحد الأعلام الثقافية لذي قار، بان سبب الأبداع يرجع لعدة عوامل هي:
1.المد الحضاري والتاريخي، حيث تعتبر ذي قار، أهم مناطق السهل الرسوبي المسكونة وهي خمس مدن، إستقطبت الملوكية من السماء، ( أور، لكش، أريدو، لارسا، أوروك )، إضافة لإختراع الكتابة المسمارية وإستخدامها في لكش، وأور في إدارة شؤون الدولة وكتابة النصوص الملحمية، وذكر المؤرخ الألماني صاموئيل نوح كريمر:(إن التأريخ يبدأ من سومر)، حيث يشير الى ان ثقافة الشرق القديم، قبل الحضارة الفرعونية هي حضارة سومر.
2. الفرق التنقيبية من جامعات العالم، (متحف بنسلفانيا، اللوفر، لندن )، والتي خصصت أجنحة للآثار العراقية، التي زخرت بالفنون والملاحم والآداب الرقمية.
3. الظروف السياسية ووجود الإستعمار، وأساليبه دفعت الناس لإيجاد وسائل تعبيرية، لرفضه تمثلت بالغناء والاهازيج، و الأشعار و يؤكد لنا التاريخ المعاصر، أن الأحزاب السياسية المتشكلة في العراق كان معظمها من الناصرية، وهذا يدل على أنها حاضنة للحضارة والثقافة.
4. روح الثورة و الرفض والمعارضة، وهنالك شواهد مثل قصة باهيزة وحسين أرخيص مع الإنكليز،(شرناها وعيت باهيزة).
5.مناخ الناصرية وأجواءها وعادات المجتمع، التي تتقبل الفن بكل صوره(غناء، شعر، تمثيل).
6. الإحتضان المبكر للفعاليات المسرحية والأدبية، عن طريق المسرح المدرسي والنشاطات التربوية، أسس لوجود مسرح ساهم في تشكيل الفرقة القومية للتمثيل، والتي أسسها فنانو الناصرية، كذلك وعي شريحة المعلمين والمدرسين الذي لعب دورا هاما في توجيه وتشكيل الحركة الثقافية في ذي قار.
أما الأستاذ علي الشيال رئيس إتحاد ادباء وكتاب ذي قار، ذكر لي أن البيئة وتأثيرها قد شكلت الإبداع الأدبي في ذي قار، فهذه المدينة تمتاز بكون بيئتها مائية، يمر بها نهران وتمتلك مسطحات مائية (الأهوار )، والبيئة المائية عادة تكون أغنى أدبيا وثقافيا، من البيئة الصحراوية كما أثبتت الدراسات، ويمتاز أبناء ذي قار بخيال واسع مبدع حيث نقل لهم إرث كبير، قادم من حضارة سومر والتي لعبت دورا هاما في تغيير ثقافة الشرق عامة، وليس بلاد الرافدين فقط ( وما وصلنا من أنخيدوانا وكلكامش خير مثال على ذلك ).
كما إن الجينات التي ورثناها تلعب دورا مهما، في بروز هذه الملكة الإبداعية والتي نراها بارزة، ليس فقط في من ولدوا بذي قار، لكن من ولدوا في الغربة لكن لهم جذور ذيقارية، (الچا والسحنة الشروگية البارزة، في كل شيء يدل عليهم )، وذكر أن الناصرية تميزت بوجود أربع بيئات مؤثرة هي، ( بادية، ريف، مدنية،الهور)، وكل بيئة من هذه البيئات تميزت بلون ثقافي غني، أثرت المحافظة وإسترسل في حديثه معي عن عشقه لذي قار، وعمق حضارتها وجمال أهوارها التي يعرفها كما يعرف أبناؤه.
أما المخرج والاديب الأستاذ جميل الماهود، أخبرني أن الأختيار والتأثير والتأثر مهم جدا والقراءة والإطلاع، هي من تشكل شخصية الفرد وتظهر إبداعه كما أن البيئة المحيطة تلعب دورا، فهي مصدر مستفز ومحفز لإبداع الفرد، وأردف أن لا علاقة للجينات في تحفيز وتكوين النشاط المعرفي، لأننا صادفنا الكثير من أبناء المبدعين سلكوا طريقا مختلفا، عن طريق الفن والأدب الذي ميز آباؤهم.
أما الناشط البيئي وصاحب أحد المراسي السياحية في أهوار الچبايش، علاوي الأهواري أخبرني أن حسب معلوماته، بصورة عامة الجنوب مجتمع سمعي وثقافي، ويمتلك قدرة الحفظ والإصغاء في كل شيء، ولأن الشعر أخذ حيزا واسعا في هذه المناطق ودخل في جميع مجالات حياتهم، ويستخدمونه في الذم والمدح والوصف والغزل، والمنافسة وفي حياتهم اليومية بكثرة، ولكثرة المتلقين من البيئة المحيطه بهم، وخاصة الأشعار الإرتجالية مثل الأبوذية والدارمي، حيث أغلب هذه الأنواع من الشعر هي تجسيد لمواقف وأحداث في حياتهم اليومية، وليست من نسج الخيال.
أما أنا إبنة هذه المحافظة فوقفت كالطفلة أمام هذا الإرث المخيف، من الإبداع حائرة لا أعرف كيف أفسره ولأي شيء أعزوه، بالنسبة لي هي جينات و تأثر وتأثير ودراسة وإرتجال، لأفكار وعبارات لا أعرف كيف خطرت لي، فأنا أتحدث وأكتب بالفطرة وأحيانا الدراسة وتارة أخرى المجتمع ومحيطي.
لكن هنا الجميع إتفق على شي واحد لا غبار عليه، الناصرية مبدعة وولاّدة وبها من المواهب المتعددة التي تثري الثقافة العراقية والعربية ايضا، هل تتفقون معي؟!.