السبت 30 ذو الحِجّة 1445هـ 6 يوليو 2024
موقع كلمة الإخباري
تاريخ الديانات: (1) اليهود.. أسرار وخفايا البدايات!
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 06 / 18
0

سلسلة تاريخ الديانات.. الجزء الأول من تاريخ اليهودية (من 2000 ق. م. الى 722 ق. م.)

في نحو 2000 قبل الميلاد، كان العبرانيون كسائر الشعوب السامية يعيشون في الصحراء السورية، على تخوم الواحات الشمالية للجزيرة العربية في المناطق التي يكسوها العشب، وكانت منازلهم عبارة عن خيم من جلود الجمال والماعز، متكتلين على شكل عشائر. 

وكانت العبادة السائدة بينهم هي عبادة الحجارة والنصب، فكانوا ينظرون الى تجمعات الحجارة باحترام وتقديس، خصوصاً إذا كانت على شكل شبيه بالإنسان أو كان موقعها ملفت للنظر، كما لو كان على قمة جبل، وإذا تشكلت حلقة مستديرة من الصخور على شكل أعمدة، سموها بالمذبح أو النصب، كما اعتقدوا بأرواح الشجر والحيوان، وكانت كل روح تمتلك قدرة كونية يسمونها (إيل) او (إيلوه) او (إيليم) او (إيلوهم)، والتي تعني الكائن الخارق او فوق الإنساني أو الإلهي، ثم تطورت التسمية لتصل عند العبرانيين والآراميين بمعنى (الإله الواحد).

اضطرت أغلب الجماعات السامية الى الهجرة من الصحراء السورية شرقاً وغرباً، لتتسمى فيما بعد بالبابليين والآراميين والفينيقيين والعموريين والكلدانيين، وقد تنقلت عشيرة النبي إبراهيم عليه السلام على طول حدود سهل ما بين النهرين وصولاً الى منطقة حران في شمال الصحراء السورية، والتي كان حينها مركزاً للقوافل، إلا أنها لم تستقر طويلاً بسبب الظروف السياسية المضطربة في المنطقة، فقد كانت حران مهددة بغزو الحوريين وهم قبائل بربرية كانت تسكن جنوب تركيا الحالية لكنها أجبرت على النزوح جنوباً بسبب غزو القبائل الآرية القادمون من الشرق بعرباتهم. 

فانتقلت عشيرة النبي إبراهيم عليه السلام لتسكن قرب أور الكلدانيين، ويمكن أن يكون قد ولد عليه السلام هناك، ثم هاجر بعد ذلك مع قبيلته الصغيرة الى أرض كنعان، وسكنوا في سلسلة جبال كلسية مواجهة لأرض الكنعانيين.

في هذه الأثناء تمكنت جماعات متنقلة من الساميين تشكيل تحالف أطلق عليهم اليونانيون اسم الهكسوس، وقد تمكنوا من احتلال مصر قرون عديدة.

المصريون يطردون الهكسوس

بعد وفاة ابراهيم عليه السلام جاء ابنه إسحاق ومن بعد إسحاق يعقوب عليهما السلام، وقد حدثت في زمانه مجاعة رهيبة، أجبرته وقبيلته للهجرة الى تخوم الحدود المصرية، لتحدث بعد ذلك قصة يوسف عليه السلام المعروفة، وتنتهي بجلبه عائلته والتي ستعرف ببني إسرائيل أي أولاد يعقوب عليهم السلام ليسكنوا أرض جاسان الخصبة الواقعة شمال شرق مصر.

سار كل شيء على ما يرام لأجيال عديدة، وأقبلت الدنيا على بني إسرائيل، الى أن ثار المصريون وطردوا الهكسوس في الفترة الممتدة من (1580 ق. م. الى 1560 ق. م.)، إلا أن الإسرائيليين لم يتغير وضعهم في الحكم الجديد، واستمروا كذلك لقرن ونصف القرن، لم يتعرضوا فيها للمضايقات من المصريين، الى أن جاء رمسيس الثاني للحكم عام (1304 ــــ 1237 ق. م.)، الذي كان همه بناء الصروح العظيمة والمعابد الضخمة، ونتيجة حاجته لعمال السخرة انقض على بني إسرائيل، وحولهم الى عبيد وعمال سخرة.  

الإسرائيليون تحت سياط فرعون!

أجبر الإسرائيليون على العمل تحت السياط لإنجاز مشاريع فرعون، ولم يكن من الممكن لهم التخلص، حتى أنقذهم الله بموسى عليه السلام، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسومُونَكُمْ سوءَ الْعَذَابِ وَ يُذَبحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَستَحْيُونَ نِساءَكمْ وَ فى ذَلِكم بَلاءٌ مِّن رّبِّكمْ عَظِيمٌ)، إبراهيم: 6.

وقصة موسى مع فرعون معروفة، ليس من الضروري سردها، ننتقل منها الى جزء الخروج من مصر، فقد عبر موسى بهم البحر الأحمر ثم تلقى الألواح التي أنزل الله تعالى بها التوراة على سفح جبل حوريب في شبه جزيرة سيناء، وقد تلا ذلك تأسيس ما يعرف بخيمة الرب، وهي خيمة يحملونها معهم أينما ذهبوا ليجتمعوا فيها ويقيموا طقوسهم المقدسة، وقد تولى سبط لاوي مسؤولية إقامة الشعائر الخاصة بنصب خيمة الرب، ثم صار بعد ذلك السبط الذي يتحدر منه الكهنة. 

لم تكن خيمة الرب فارغة بل اشتملت على تابوت العهد، وهو صندوق خشبي يحتوي على ألواح التوراة، وقد كانت له عند الإسرائيليين قدسية عظيمة، فكانوا يحملونه بإجلال في مقدمة ركبهم، وفي معاركهم اللاحقة.

دخول أرض كنعان

في عام 1200 ق. م. وبعد انقضاء التيه وهو العقوبة التي عاقبهم الله بها أربعين سنة بسبب رفضهم دخول أرض كنعان حين أمرهم موسى عليه السلام بذلك، وقد مات فيه موسى وهارون عليهما السلام وتولى يوشع وصي موسى عليه السلام قيادة بني إسرائيل وقد رأوا في أنفسهم هذه المرة القدرة على دخول أرض الكنعانيين، قاد الهجوم الرئيس سبطا يوسف عليه السلام (أفرايم ومنسى)، اللذان شقا طريقهما قتالاً عبر الأردن فاحتلا أريحا، ومن هذه القاعدة امتد توسعهم عبر وسط فلسطين فسيطروا على شكيم وشيلوه والسامرة لكي يحكموا قبضتهم على الأرض الوسطى.

وأغار سبطا يهوذا وشمعون من الجنوب وسيطرا على المرتفعات المجاورة لمدينة اليبوسيين المحصنة "أورشليم".

أما سبطا راؤوبين وجاد فقد تخلفا أو رجعا الى منطقتهم شرق الأردن، بينما شق الآخرون طريقهم بين الكنعانيين الشماليين وتغلغلوا وانتشروا في وادي يزرعيل والمنطقة الشمالية.

أما سبط دان فقد استوطن أقصى شمال فلسطين بعد استيطان فاشل في الجنوب، بينما اتجه سبط زوبولوم الى الشمال الغربي الى الساحل الفينيقي وتوصل الى اتفاق سلام مع الحثيين. واحتلت أسباط يساكر وآشير ونفتالي الأرض الخصبة حول الجليل (بحيرة طبرية)، بينما تشتت سبطا شمعون وبنيامين او تم استيعابهم ضمن أراضي باقي الأسباط.

وقد كانت فترة الاستيلاء واستيطان هذه الأراضي طويلة تربو على مائتي سنة، ولم تكن جميع المعارك لصالح بني إسرائيل، فقد كان الكنعانيون قد شيدوا أسواراً منيعة حول مدنهم الرئيسة، وامتلكوا عربات وأسلحة تفوق الأسلحة البدائية عند الإسرائيليين. كذلك اليبوسيين كانوا قد أحاطوا أورشليم بأسوار لم يقدر بنو إسرائيل على تجاوزها طيلة مائتي سنة.

من جهة أخرى كان الإسرائيليون يواجهون اعداءً من الشرق والغرب، فمن الشرق واجهوا قبائل سامية أخرى كانت تروم احتلال الأراضي الكنعانية ايضاً، كالعموريين والأدوميين والمؤابيين، ومن جهة الغرب كان أعدائهم اللدودين، وهم الفلستيين، أو الفلسطينيين وهم أقوام يونانية انحدروا من جزر وسط المتوسط، وبعد فشلهم في إيجاد موطئ قدم لهم على السواحل المصرية احتلوا بلدات ساحلية من ارض الكنعانيين، وقد استمرت حروبهم مع الإسرائيليين أجيالاً طويلة حتى انتهت لصالح بني إسرائيل في النهاية.  

ولا يقصد بالفلسطينيين سكانها العرب الحاليين، وإنما هي تسمية صارت للأرض التي سكنوها سابقاً قبل انقراضهم، كما كانت تسمى قبل ذلك بأرض الكنعانيين نسبة لسكانها السابقين، فبقيت التسمية وهلك أصحابها، ولما سكنها العرب لاحقاً تسموا كذلك بالفلسطينيين نسبة لاسم الأرض.     

وتذهب بعض الأبحاث التاريخية ان الداخلين لأرض كنعان لم يكونوا جميعهم من بني إسرائيل، بل أثبتت وثائق تل العمارنة المكتشفة عام 1887 أن الكثير من القبائل السامية كانت تقطن المناطق القريبة من كنعان وكانت تشكل ازعاجاً مستمراً لهذه البلدات، فقد وجدت في رسائل تل العمارنة رسائل أرسلها ولاة وسادة هذه البلدات يستنجدون السلطات المصرية لحمايتهم من هجمات العابيرو.

وقد تحالفت هذه القبائل السامية مع عبرانيو الخروج (بني إسرائيل) ليشكلوا قوة استطاعت اخضاع الأرض لبني إسرائيل، وقد أثر بنو اسرائيل بحلفائهم لدرجة أنهم تبنوا عقيدتهم، ليس هذا فقط، بل شكل هذا التحالف بين القبائل السامية وبني إسرائيل أمة واحدة كونهم جميعاً يرجعون لنسب واحد، وقد تشرب هذا الحس القومي فيهم نتيجة التهديد المتزايد الذي شكله الفلستيون بدأ من عام 1150 ق. م.، وبدأ تحت قيادة النبي صموئيل، والملك طالوت (شاؤول في التراث اليهودي)، بدحر الفلستيين وردهم الى سهلهم الساحلي، وقد حكي القرآن قصتهم بقوله تعالى: (أَ لَمْ تَرَ إِلى الْمَلا مِن بَنى إِسرءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسى إِذْ قَالُوا لِنَبىٍّ لّهُمُ ابْعَث لَنَا مَلِكاً نّقَتِلْ فى سبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسيْتُمْ إِن كتِب عَلَيْكمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَتِلَ فى سبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَرِنَا وَأَبْنَائنَا فَلَمّا كُتِب عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلّوْا إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمُ بِالظلِمِينَ (246) وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيّهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ بَعَث لَكمْ طالُوت مَلِكاً قَالُوا أَنى يَكُونُ لَهُ الْمُلْك عَلَيْنَا وَنحْنُ أَحَقّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْت سعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصطفَاهُ عَلَيْكمْ وَزَادَهُ بَسطةً فى الْعِلْمِ وَالْجِسمِ وَاللّهُ يُؤْتى مُلْكهُ مَن يَشاءُ وَاللّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيّهُمْ إِنّ ءَايَةَ مُلْكهِ أَن يَأْتِيَكمُ التّابُوت فِيهِ سكينَةٌ مِّن رّبِّكمْ وَبَقِيّةٌ مِّمّا تَرَك ءَالُ مُوسى وَءَالُ هَرُونَ تحْمِلُهُ الْمَلَئكَةُ إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً لّكمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ (248) فَلَمّا فَصلَ طالُوت بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكم بِنَهَرٍ فَمَن شرِب مِنْهُ فَلَيْس مِنى وَمَن لّمْ يَطعَمْهُ فَإِنّهُ مِنى إِلا مَنِ اغْتَرَف غُرْفَةَ بِيَدِهِ فَشرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوت وَ جُنُودِهِ قَالَ الّذِينَ يَظنّونَ أَنّهُم مّلَقُوا اللّهِ كم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كثِيرَةَ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصبرِينَ (249) وَلَمّا بَرَزُوا لِجَالُوت وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صبراً وَثَبِّت أَقْدَامَنَا وَانصرْنَا عَلى الْقَوْمِ الْكفِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوت وَءَاتَاهُ اللّهُ الْمُلْك وَالحْكمَةَ وَعَلّمَهُ مِمّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاس بَعْضهُم بِبَعْضٍ لّفَسدَتِ الأَرْض وَلَكنّ اللّهَ ذُو فَضلٍ عَلى الْعَلَمِينَ (251) تِلْك ءَايَت اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْك بِالْحَقِّ وَ إِنّك لَمِنَ الْمُرْسلِينَ)، البقرة: 246 ـ 252.

عهد الملوك

بعد هذه الحرب ابتدأ فصل جديد من تاريخ بني إسرائيل، فقد كانوا اثني عشر قبيلة يقع على رأسها زعيم (قاضي)، يحكم بين أفراد قبيلته، تسمى هذه الفترة بعهد (القضاة)، وبعد تنصيب طالوت ملكاً عليهم من الله تعالى ابتدأ عهد الملوك، والذي يمثل الفترة الذهبية لبني إسرائيل، فقد استولى داوود اخيراً على أورشليم (القدس) مدينة اليبوسيين، وكان ذلك نحو 1020 ق. م. وجعلها عاصمته، لتصل دولة بني إسرائيل لأوجها في عهد النبي سليمان عليه السلام.

وبعد وفاة النبي سليمان عليه السلام تولى ولده رحبعام الحكم، إلا أن عشرة من الأسباط والقبائل اليهودية تمردوا على حكمه، وأسسوا دولة مستقلة لهم في الشمال، فانقسمت الدولة الواحدة الى دولة إسرائيل في الشمال، وعاصمتها السامرة (نابلس الحالية)، والى دولة في الجنوب اسمها يهوذا على أسم أكبر القبائل التي تقطنها، وهي سبط يهوذا، عاصمتها أورشليم (القدس). 

تفشي الانحراف الديني

اقتضى التحول من عهد القضاة الى عهد الملوك الانتقال من المرحلة البدوية الى المرحلة الزراعية وحياة الريف، وبما أن الإسرائيليين كانوا بدواً لا يعرفون شيئاً عن الزراعة، خصوصاً بعد انقطاعهم عنها طيلة فترة التيه وبعده لانشغالهم بالحروب، فقد تعلموا فنونها من الكنعانيين، والذين كانوا يحرصون على الاتيان بطقوس وثنية في أوقات محددة يعتبرونها أعياداً، وقد تسربت هذه الطقوس والاعياد الى بني إسرائيل، حرصاً منهم على مباركة أرضهم وزيادة غلاتهم، فقد كان الكنعانيون يعتقدون أن لكل قطعة أرض إله أشبه بالإقطاعي يسمونه "بعل"، يمنح هذه الأرض خصوبتها، وكانوا يعتقدون أن حياة النبات تمثل حياة الإله، وموته موته، فتراهم يحتفلون في مواسم الحصاد ويعتبرونه ولادة جديدة لهذا الإله، وعند موت النبات وتحلله تراهم يقيمون العزاء ويبكون على ذكراه. وفي جميع الاحتفالات السعيدة او الحزينة كانت تقدم القرابين.

وقد وقع بنو إسرائيل عرضة لإغواء ما يتعلق بهذا الفن الزراعي من سحر وممارسات طقسية، فإن المزارعين الإسرائيليين رافقوا الكنعانيين الى مقامات الآلهة على المرتفعات، مقدمين القرابين للإله بعل والإلهة عشتاروت، واحتفلوا بأعياد جيرانهم الكنعانيين في بداية ونهاية موسم حصاد الحنطة. 

انتشرت هذه الممارسات بكثرة في الأسباط العشرة الذين سكنوا الشمال، بخلاف سبط يهوذا في الجنوب اللذين بقوا يمارسون الرعي فلم يضطروا لممارسة هذه الطقوس، فكانوا أكثر وفاءاً لدينهم.

 يعبر هذه النص من العهد القديم عما ذكرنا: (شعبي يسأل خشبه، وعصاه تخبره، لأن روح الزنا قد أضلهم فزنوا من تحت إلههم، يذبحون على رؤوس الجبال، ويبخرون على التلال تحت البلوط واللبنى والبطم لأن ظلها حسن، لذلك تزني بناتكم وتفسق كناتكم، لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين، ولا كناتكن لأنهن يفسقن، لأنهم يعتزلون مع الزانيات ويذبحون مع الناذرات الزنى. وشعب لا يعقل يصرع). سفر هوشع 4: 12.

ثورة الأنبياء

واجه الأنبياء الانحراف الديني بشدة، ولم يكتفوا بالوعظ، بل وصل الأمر ـ حسب مسفورات وتراث اليهود ـ لقيادة ثورة ضد النظام الحاكم في دولة الشمال، وقد أثمرت جهودهم للحد من الموبقات التي كان يفعلها بنو إسرائيل، إلا إنها لم تقض عليها، وقد تنبأ هؤلاء الأنبياء بأن الله تعالى قد قضى نزول العذاب على دولة إسرائيل الشمالية، وقد تحققت النبوءة.

ظل الأنبياء يمثلون دور الناصح والمرشد للأمة، لكن من دون جدوى، فقد انتهج حكام دولة الشمال (إسرائيل) العداء لهم، مستفيدين من دعم رجال الدين الفاسدين، وكمثال على ذلك ما قاله "إمصيا" الكاهن الأكبر في بيت إيل للنبي عاموس على ما يحكيه سفر عاموس من الكتاب المقدس، حيث اتهمه باسم الملك وقال له: (أيها الرائي، إذهب، أهرب الى أرض يهوذا وكُل هناك خبزاً وهناك تنبأ، وأما بيت إيل فلا تعد تتنبأ فيها بعد، لنها مقدس الملَك، وبيت المُلك). عاموس 7: 12ـــ13.

وقد ذكر العهد القديم جملة من أشماء وأعمال هؤلاء الأنبياء، منهم إليا واليشع وعاموس وهوشع وإشعيا ومخيا، والذي يؤرخون نبوته عشية سقوط دولة إسرائيل على يد الآشوريين سنة 722 ق. م. والذي لم يحك الكتاب المقدس عن نبي بعده ما يقارب نحو سبعين عام، ولعل هذه الفترة من تاريخ بني إسرائيل هي التي حكى عنها القرآن الكريم بأنها فترة اتسمت بتكذيب الأنبياء وقتلهم، قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِئَايَتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ..)، النساء: 152.

وسنتناول في الجزء الثاني أسباب ترجيحنا لهذا القول ان شاء الله تعالى.

خاتمة وعبرة

وما أشبه ما حصل مع هؤلاء الأنبياء عليهم السلام مع ما حصل مع أمير المؤمنين وولده المعصومين من بعده عليهم السلام، فقد استمروا بحفظ الدين وإرشاد المسلمين ما وجدوا الى ذلك سبيلاً، محذرين ومنذرين من سوء العاقبة إذا استمر المسلمون في نهج الابتعاد عن الله تعالى، وما وجدوا أذناً صاغية إلا من قلة ما زالوا مضطهدين، مقهورين حتى فرج الله عنهم في الأزمنة الأخيرة. 

فانظر الى حال المسلمين، نتيجة اتباعهم ملوكاً فاسقين، بمعونة فقهاء أكثر فساداً، واعتبر، فإن الغاية من سبر تاريخ الأمم هي الاعتبار. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وااله: «يكون في هذه الأُمّة كلّ ما كان في الأُمم السالفة حَذْو... القُذَّة بالقُذَّة». 

وفي تفسير القمي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ، شبر بشبر، وذراع بذراع، وباع بباع، حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة، وآخره الصلوة». 

وعن جامع الأصول، فيما استخرجه من الصحاح، وعن صحيح الترمذي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم وزاد رزين حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟».

أقول: وهذه الرواية أيضا من المشهورات، رواها أهل السنة في صحاحهم وغيرهم، وروتها الشيعة في جوامعهم.

وهذا يذكرني بما قاله أبو ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه عند تذكيره للمسلمين بعد مؤامرة السقيفة، باستخلاف النبي صلى اله عليه واله لعلي بن ابي طالب: «يا معشر قريش قد علمتم وعلم خياركم أن النبي صلى الله عليه وآله قال لنا: الأمر من بعدي لعلي بن أبي طالب، ثم الأئمة من ولد الحسين، فتركتم قوله، وتناسيتم وصيته، واتبعتم أمر الدنيا الفانية، وتركتم أمر الاخرة الباقية، وكذلك الامم كفرت بعد ايمانها، وجحدت بعد برها، فكفرتم وحاذيتموه حذو القذة بالقذة، ومثل النعل بالنعل، فعما قليل تذوقون وبال أمركم، وما قدمت أيدكم، وما الله بظلام للعبيد». كتاب الاربعون لمحمد طاهر القمي الشيرازي، ص290. 



التعليقات