الخالق المتعال هو الذي خلق الخلق ودبّر الأمر وهو يعلم المصالح والمفاسد، وأوامره ونواهيه تصب في صالح العباد؛ لأنه أقرب اليهم من حبل الوريد، ويعلم ما ينجيهم فيرغّبهم فيه وما يرديهم فيحذّرهم منه، وهو غني عن العالمين، ونحن المخلوقون الذي يعترينا الضعف والعوز والخواء بحاجة الى هداية ورحمة الله تعالى، هو فضل من الله تعالى الذي خلقنا وأرشدنا طريق الهداية، وفي المقابل ثمة طرق متعددة تدعو الى اتباع الأهواء والشيطان، فإنها تدعو لمصالح متعددة وأهواء مختلفة ربما تكون متضادة ومضطربة، هدفها الابتعاد عن طريق الهدى، والتيه في متاهات الهوى والنفس الأمارة والمصالح الضيقة لأهل الفتن والاغواء والسلطان، قال تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) الأنعام: 153.
إن طريق الله واحد، بينما طرق المنحرفين والبعيدين عن الله متعددة ومتناثرة، وذلك لورود الصراط المستقيم بصيغة المفرد، وسبل المنحرفين بصيغة الجمع، والنتيجة هي أن "العدالة" تصاحب "النظام الواحد" والنظام الواحد دليل على "المبدأ الواحد" وبناء على ذلك فإن العدالة بمعناها الحقيقي في عالم الخلق دليل على وحدانية الخالق.
(وأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) هذا إشارة إلى الالتزام بالتعاليم الالهية بحذافيرها، وهو صراط اللَّه المستقيم، وليس بعده إلا الضياع والضلال (فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) كالشرك والإلحاد والأحزاب الفاسدة والأديان الباطلة (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فأية سبيل غير القرآن والإسلام فهي من وضع الأهواء، وليس للأهواء حد ولا ضابط، فإذا اتبعها الناس تفرقوا شيعا وأحزابا متناحرة، أما إذا اتبعوا جميعا دين اللَّه فتوحدهم العقيدة الحقة، والإيمان القويم، وفي الحديث: ان النبي (صلى الله عليه وآله) خطّ خطا بيده، وقال: هذا سبيل اللَّه مستقيما، ثم خطّ خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، وقال: هذه ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه. تفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية، ج3 ، ص 282-285.
الله تعالى هو المتفرد بالهداية وحده: (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ اْلمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا) الكهف:17. وكل انحراف عن منهجه سبحانه الذي وضعه طريقاً للهداية إنما هو خبط في بيداء التيه، وجنيٌ للشقاء المر الذي هوت فيه الشعوب الكافرة التي ولّت ظهرها للحق المنزّل.
العاصون تقودهم شهواتهم إلى الضلالة والغواية، والمطيعون يقودهم عقلهم إلى البشارة والهداية، وشتان ما بين الغواية والهداية! وأين الذي يهديه الله تعالى ويأخذ بيده إلى سبيل النجاة، من الذي يتخبطه الشيطان فلن تجد له وليا يرشده ولن تجد له معينا يرشده إلى طريق الرشاد؟! الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو الخالق المتعال يعلم باحتياجات الانسان وما يوصله إلى الفلاح، ومن اتبع هداه فهو المهتد، ومن ضلّ عن الهدى واتّخذ سبل الشيطان له منهجا في الحياة، فإنه لا ينكفأ إلا يتخبطه الشيطان ذات اليمين وذات الشمال وفي نهاية المطاف يركمه إلى الحضيض غير مأسوف عليه، تراه يندب حظه العاثر دون أن تجد له وليّا ولا نصيرا، فالشياطين يتخلون عن أخلائهم عند المشاكل والمزالق التي ينحدرون إليها، لأنهم بالأساس أدوات ضلالة وانحراف وليسوا سبل نجاة وخلاص، وهذه هي الطامة الكبرى عند أولئك الذين يتخذون أربابا من دون الله أولياء لهم، فإنهم يخذلونهم كما يخذلون أنفسهم، ولكن معظم الناس لا يفقهون.
يقول العلماء إن هناك أربعة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح على الإنسان بمقتضى فطرته وهي: من أين جئت؟ وإلى أين المصير؟ ولماذا؟ وكيف؟ وكل خلل في الإجابة عن واحد من هذه الأسئلة الخالدة يعني الشقاء والدمار في حياة الإنسان، ولا وجود للإجابات الصحيحة إلا في الدين الحق، وإن نظرةً واحدة على واقع الغرب وما يعيشه من ضياع فكري وتفسّخ أخلاقي، بل ونزول بالإنسان إلى دركات الحيوانية الهابطة تنبؤك بالحقيقة، لأن بعض فلاسفتهم المشهورين أطلق مقولته المادية: (أنْ لا هدف ولا غاية من وجود الإنسان) فظهرت في أوربا جماعات تسمى بالخنافس تتسافد في الطرقات تسافد الحمر، وتعيش عيشة البهائم البكماء، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيـامَةِ أَعْمَى) طه: 124.
كذلك مخدر الزومبي الذي يغزو شوارع أمريكا وأوربا وعند تعاطيه يتحوّل الانسان الى مخلوق أتعس من أصغر بهيمة، فالمخدر يقضي على الجهاز العصبي للشخص ويتحوّل الى خرقة بالية، منظره مخيف، لا يقدر على التحرك، يفقد الاحساس، فالمخدر يعبث في الجملة العصبية في الدماغ، ويؤدي الى فقدان الحواس وانخفاض ضغط الدم، والى تباطؤ معدل ضربات القلب، انخفاض وبطء في التنفس، وأيضا يسبب جروحا خطيرة وتعفن في الانسجة الجلدية، وهذا يؤدي لاحقا الى البتر والجنون وربما الهلاك، والجدير بالذكر ان هذا المخدّر منتشر في (48) ولاية أمريكية من ضمن (50) ولاية في البلاد، ما حدى بإدارة مكافحة المخدرات الامريكية من اصدار تحذير بشأن انتشار هذا المخدّر الفتاك.
السؤال الذي يطرح بقوة، ما الذي يدفع شخصا لاستهلاك مثل هذه المادة التي تسلب كرامته، وتجرده من انسانيته؟! انه الابتعاد عن سبيل الله الناجي وانتهاج سبل الشيطان المهلكة، الطامة الكبرى انهم يمارسون تلك الأعمال المشينة تحت يافطة الحرية والديمقراطية، فبئس الديمقراطية تلك التي تمرّغ كرامة الانسان بالتراب، وتجعله أتعس حتى من البهائم، وهل يوجد ضنك أتعس من هذا الضنك الذي يصيب لا محالة كل من أعرض عن ذكر الله تعالى؟! فأنساه نفسه فأضحى يترنح في الشوارع كالبهيمة العمياء الضالة في الدنيا، وأضحى فاقد البصيرة والمآل الحسن في الآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
الإعراض عن ذكر الله تعالى مساوق للجوء إلى ذكر الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، والذي يكون حاله هذا لا يخرج من ذنب ومعصية إلا ويدخل في أعظم منها، وهذا الانحطاط في السيرة والسلوك يؤدي بالإنسان إلى التخبط والعشوائية في الحياة الدنيا مما يكون فريسة سهلة للضياع والجهل، وهي الأمور التي تقلّب أحوال الإنسان رأسا على عقب، تراه يلهث وراء المال فلا يشبع، ووراء الشهوات فلا يقنع، ووراء الشهرة فلا يخنع، بل أنه يركض ويسعى ولا يؤول جهدا إلا ويبذله للحصول على المال والجاه والمنصب بأي طريقة كانت حتى على حساب سمعته وكرامته، بل يتعدى ذلك في الكثير من الأحيان بأنه يحصل على مبتغاه على حساب المجتمع بما فيهم القصّر والأيتام وأصحاب البلوى والفاقة والاحتياج، يعمل كل ذلك لأنه يؤمن بالماديات بعيدا عن الغيبيات.
ومن هكذا ديدنه فإنه وإن حصل على فتات من هنا وهناك، بيد أن حياته تكون وبالا عليه مليئة بالمشاكل والمصاعب، ومثلما أنه لا يخرج من معصية إلا ويدخل في أعظم منها، فإنه لا يخرج من مشكلة إلا ويدخل في أعظم منها، فإن المشاكل تحوطه من كل الجهات وتضيّق عليه الخناق وتحوّل حياته كلها إلى ضنك وتعب وإرهاق، لا يكاد يخرج منها حتى يحشره الله تعالى في الآخرة وهو أعمى البصيرة خالي الوفاض من أية حسنة، يجره حظه العاثر إلى جهنم والعذاب الواصب جرا، ولا منجي حينئذ للكافرين والعاصين من مصيرهم المخزي والمحتوم؛ لأن مصير قرينهم الشيطان أتعس حالا وأخزى موقفا ومآلا.
إن صحائف التاريخ خير شاهد على عجيب تأثير المعاصي في الأمم، لقد كانت أمة الإسلام في سالف دهرها أمة موفورة الكرامة، عزيزة الجانب، مرهوبة القوة، عظيمة الشوكة، لكنها أضاعت أمر الله، وأقْصت شريعته من حياتها، وراجت أسواق الشرك في أصقاع كثيرة في العالم الإسلامي، فصار أمرها إلى إدبار وعزها إلى ذل، وجثم على صدرها ليل طويل من الاستعمار الكافر، ولولا أنها الأمة الخاتمة لأصبحت تاريخاً دابراً تحكيه الأجيال، وليس الذي حل بنا ويحل، ظلماً من ربنا، كلا وحاشا، فهو القائل: (ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) الانفال: 51. وإنما هي السنن الربانية النافذة التي لا تحابي أحداً: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد: 11. (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الأنفال: 53.
من هنا كانت البداية، ومن هنا يكون البدء، ومن تركِنا لديننا وارتكابنا المعاصي والذنوب كانت بدايةُ رحلة الذلِّ والضياع في تاريخ أمة الإسلام، ومن الرجوع إلى ديننا وتوبتنا إلى ربنا يكون البدء إذا أردنا العودة إلى العزة القعساء والشرف المفقود، وكلَّ تائب منّا من معاصيه عليه أن يعلم أنه يكتب بذلك سطراً في سِفْر مجد أمة التوحيد، وهو سفر مبارك فيه من الطيبات والرزق الكريم في حياة طيبة مطلة على حياة أطيب وأدوم وأبقى، تكون من نصيب كل ذي لب راشد قويم.