الخميس 20 جمادى الأول 1446هـ 21 نوفمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
المسلمون وَمِشْيَةُ الغراب!
الشيخ مقداد الربيعي
2024 / 04 / 18
0

لكل أمة نموذجها الحضاري الذي يمثل هويتها بين الأمم، والذي يكون نابعاً من تراثها وواقعها، إلا أننا في دول العالم الثالث نواجَه بنماذج حضارية وثقافية أخرى تفرض نفسها على أفكارنا وواقعنا، أخص بالذكر الانموذج الغربي، فلتفوق الإنسان الغربي خلال القرنين الماضيين حاول جاهداً أن يُعمم نموذجه الثقافي في أرجاء العالم، وصور نفسه حاملاً شعلة الحرية والتحضر، فبدأ ما يسمى بـ(الغزو الثقافي)، والذي هو في الحقيقة محاولة الغرب فرض نموذجه الثقافي على شعوب العالم.

ونحن لا ننكر ما لهذا النموذج من حسنات اقتصادية وسياسية، لكننا أيضاً يجب ألا نغفل عن جوانبه المظلمة المدمرة، وما ندعو اليه أن يكون التحيز لنموذج ثقافي ما مبني على الوعي والإدراك، وإلا جرّت المسألة الى تقليد أعمى له في حسناته وسيئاته، والتي قد لا تنسجم مع هوية المجتمع.

ومن الظريف أن الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه (العالم من منظور غربي) بعد أن ذكر أمثلة كثيرة لتبعية مجتمعاتنا العربية وغير العربية للنموذج الغربي، في مأكلنا وملبسنا، وبناء دورنا وأثاثها، بل في سلوكنا ومفاهيمنا وقيمنا، حكى قصةً حصلت معه في إحدى مطارات الدول العربية، عندما قرر الجلوس على السجادة الوفيرة المفروشة في صالة الانتظار، ليتفاجأ بموظف ينهره، ويطالبه بالجلوس على الكراسي، لأن الجلوس على السجادة مباشرة هو (أمر غير حضاري)!

وقد غفل هذا الموظف المسكين أن سيرة الغربيين بالجلوس على الكراسي كانت لبرودة الأرض عندهم وعدم استخدامهم السجاد الدافئ، مع أن الكثير من البحوث الطبية التي شككت في صحة ارتفاع الكراسي المتعارفة، وضرره على العمود الفقري! كل ذلك بسبب تحيزنا اللاواعي للنموذج الثقافي الغربي.

لا يفهم من كلامي أني أدعو لترك الجلوس على الكراسي، أو رفض سائر ما وفد لنا من الغرب، وإنما هو مثال للتبعية غير الواعية، والتي بسببها تجد المسلم يفعل أمراً، وهو لا يعلم سبب فعله له، إلا لأنه الشائع عند المتحضرين!!  

وقد شهد النموذج الغربي تراجعاً في بلداننا أبان أربعينيات القرن الماضي نتيجة بروز بعض التيارات السياسية الإسلامية والقومية، والتي دعت للاقتراب أكثر من التراث، وعدم مسخ هوية المجتمع، إلا أن هذه المحاولات اليمينية واليسارية باءت بالفشل كونها اهتمت بمحاربة قشور النموذج الغربي، دون لبابه، وبالشكليات دون المحتوى والمضمون. وفي تقديري أنها لم تخرج عن اتباعها النموذج الغربي، كل ما في الأمر انها حاولت إعادة صياغة الداخل الإسلامي على أسس غربية، مع المحافظة على الشكل الخارجي للمجتمع.

وهذا يذكرني بما كتبه أحد المثقفين المعاصرين، عندما كان يشاهد التلفاز مع بعض أصدقائه الإسلاميين، وبدأ برنامج (المصارعة الحرة)، الذي أثار الغثيان عند صاحبنا، فأراد أن ينبههم على سلبيات مثل هذه البرامج، كونها تستثير في الإنسان أسوء ما فيه من مشاعر الغضب والانتقام والسادية، فقال لهم بأدب شديد: لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله حاضراً الآن، فما هي نوعية البرامج التلفزيونية التي يود مشاهدتها، وهل يمكن أن يشاهد مثل هذه البرامج؟ فأجاب أحد الحضور على الفور: طبعاً لن يقبل مشاهدة مثلها. ففرح صاحبنا، واستفسر عن السبب؟ ليجيبه الآخر: لأن المصارعين لا يرتدون المايوه الشرعي الذي يغطي ما بين السرة والركبة، ويظهرون من أجسامهم ما لا يجوز!! 

هذا المثال ـ على ظرافته ـ يبين لنا طريقة البعض في معالجة الانحياز غير المبرر للنموذج الغربي، فعند هؤلاء، يمكن لرسول الله صلى الله عليه واله أن يشاهد برنامج المصارعة الحرة لو ارتدى المصارعون ملابساً مناسبة!!

نحن ندعو لنقد كافة ما يفد الينا من خارج منظومتنا الدينية والعربية، سواء كان فعلاً قيمياً أو منهجاً علمياً أو نظاماً وسياسة، والتعمق في معرفة حسنات وسيئات كلٍ منها، دون السعي الحثيث للتشبه بالغرب، ولا قطع الاستفادة من الآخرين، فنكون كالغراب الذي قلد الحمامة في مشيتها حتى نسي طريقة مشيه الأولى، فلا هو تمكن من محاكاتها، ولا هو بقي على مشيته الأصلية!

أتذكر أني ـ ومنذ زمن ليس بالقليل ـ وقفت على مقالة مهمة للدكتور علي الوردي في أحد كتبه ـ لا أذكره ـ أن المجتمع ينقسم بين محافظ وإصلاحي، وكلاهما ضروري للمجتمع، أما الإصلاحي فمهمته جلب ما يُستحدث، وأما المحافظ فمهمته اخضاعه للتقييم، لينعم المجتمع بِخُلاصةٍ من الأفكار والنظم النافعة له دون غيرها، محذراً من فقد إحدى الطائفتين، فمن دون المصلحين يفقد المجتمع التحديث والتجديد والمواكبة المطلوبة، ومن دون المحافظين يتسرب للمجتمع الغث والسمين.

فنحن لا ندعو لتمجيد الذات، وتنزيهها من النواقص، كما لا نستهدف إسباغ الشرعية على تخلفنا، فنحن نعلم أن الأسباب التي أدت لتراجعنا الحضاري داخلية قبل أن تكون خارجية، ونفقه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، الرعد: 11.

وإنما جُل ما نريد أن نؤكد عليه ان استيراد الأنظمة من النموذج الغربي ليس في صالحنا دائماً في سعينا للإصلاح والتغيير، وأن عملية الإصلاح والمراجعة لابد أن تنطلق من التراث، متمثلاً بـ (القرآن والعترة)، اللذين يحويان القيم الإسلامية كلها، والإجابة على الأسئلة الكبرى.

وفي تقديري إن أي عملية إصلاح لا تشتمل على الركنين التاليين في شخص المصلح، هي عملية ناقصة، فما لم يتمتع المصلح بملكة اجتهاد في فهم النصوص الدينية، أعني القدرة واللياقة الكافيين لإعمال قواعد فهم النص الديني، ومعرفة كافية بعلوم عصره، لا يستطيع قيادة عملية إصلاح حقيقية، لشدة ارتباط هذين الركنين، فالمصلح الحقيقي همه إصلاح الواقع، لذا هو ينطلق منه الى النص، الأمر الذي يتوقف على دراسة الواقع دراسة كافية، بعدها يرجع الى النص يستنطقه، يقول السيد محمد باقر الصدر في ضرورة أن يكون تفسير القرآن موجهاً لإيجاد حلول للمشاكل الحقيقية على أرض الواقع: «إن المفسر التجزيئي دوره في التفسير على الأغلب سلبي، فهو يبدأ أولاً بتناول النص القرآني المحدد، آية مثلاً أو مقطعاً قرآنياً دون أي افتراضات أو أطروحات مسبقة، ويحاول أن يحدد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه من اللفظ.. وخلافاً لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي؛ فإنه لا يبدأ عمله من النص، بل من واقع الحياة. يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقدية أو الاجتماعية أو الكونية، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة، ومن نقاط‍ فراغ ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجِّل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية ويبدأ مع النص القرآني حواراً؛ سؤالاً وجوابا، المفسِّر يسأل، والقرآن يجيب، المفسِّر على ضوء الحصيلة التي استطاع أن يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة من خلال أعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكرون على الأرض لا بد وأن يكون قد جمع حصيلة ترتبط بذلك الموضوع، ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم، لا يجلس ساكتاً ليستمع فقط بل يجلس محاوراً، يجلس سائلاً ومستفهماً ومتدبراً، فيبدأ مع النص القرآني حواراً حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص، من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات. ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيّار التجربة البشرية؛ لأنها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة... فهنا يلتحم القرآن مع الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة؛ لأنَّ التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أنه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن فتكون عملية منعزلة عن الواقع، منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيم والمصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع»، المدرسة القرآنية، ص23 ـ 30.

وهكذا يستمر التفاعل والتكامل بين النص الديني ومخرجات العلوم حتى تستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، وفي الختام هي دعوة للتدبر في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ .. )، الحجرات: 7، فلابد أن نجعل الإسلام هو البوصلة الموجهة لنا، لا أهواء الآخرين.



التعليقات