أواخر القرن التاسع عشر الميلادي عندما كان الشيخ محمد عبده يُقيم مع شيخه جمال الدين الأفغاني في باريس، تعرض وزير خارجية فرنسا آنئذ (هانوتو) الى الإسلام محطاً من المسلمين وطاعناً في دينهم بسبب إيمانهم بعقيدة القضاء والقدر، فما كان من محمد عَبده إلا أن رد عليه منبهاً لعراقة هذه العقيدة في الأديان السماوية جميعاً، ونحن حتى نستوضح الإشكالية وجوابها، لابد ان نتوقف عندها قليلاً: فمما لا شك فيه أن الانسان مهيمن على مصيره بإذنٍ من خالقه سبحانه ويمتلك الحرية في تقرير هذا المصير بنفسه كما يشاء، لكن هذا يتعارض مع عقيدة القضاء والقدر والتي تعني ان كل ما يجري على الإنسان مكتوب من قبل الله تعالى عليه، وهذا يفضي الى انه مجبور على فعله غير مختار؟ من هنا يتضح وجه اشكال هانوتو وغيره على المسلمين القائلين بنظرية الجبر، فبحسب هؤلاء تكون عقيدة القدر عند المسلمين بمعنى إنه تعالى قد كتب كل ما يتعلق بأفعالهم وليس لهم من الأمر شيئاً، وهذا يجر المسلم لترك العمل والنضال في سبيل تحسين واقعه، والركون الى الكسل والدعة، فتكون عقيدة القضاء والقدر من اهم أسباب تأخر المسلمين!!
وقد استند الاشاعرة على قراءتهم وفهمهم لعقيدة القضاء والقدر على طائفة من آيات القرآن الكريم، كقوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، التوبة: 51، وقوله أيضاً: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49) فقدر تعالى كل شيء في الأزل وكتبه. وقوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا) (الأحزاب، آية 38). أي قضاء مقضياً، وحكماً مبتوتاً، وأمثالها كثير.
كذلك ما في النبوي الشريف: «إن الله عزوجل قدر المقادير ودبر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام»، كتاب التوحيد، باب القضاء والقدر ح22، 386.
وفي آخر: «قدر الله المقادير قبل ان يخلق السموات والأرض بخمسين الف سنة». كتاب التوحيد، باب القضاء والقدر ح22، 386.
لكننا إذا رجعنا في فهم هذه العقيدة لكلمات أهل البيت عليهم السلام وهم خُزّان علم الله وتراجمة وحيه نجد فيها الجواب الشافي عن هذه الإشكالية، فليس القضاء والقدر الوارد في النصوص الدينية ما فهمه علماء الأشاعرة القائلون بالجبر، و لا يتنافى الاعتقاد به مع اختيار الإنسان، لأن معناه، إن الله تعالى يقدر ما يعلم أن الإنسان سيختاره، فمما لا شك فيه أنه تعالى عالم بما سيختار العبد فعله من كل جهة، فإذا كتبه في صحيفة القدر لا يُعد إجباراً للإنسان على فعله، وهو نظير علمك بأن ولدك سيختار اللعبة الفلانية إذا وضعت أمامه لعبتان، فكتابتك لهذا الأمر لا يجعله مجبراً على اختيارها لاحقاً، فإذا علم تعالى بأن زيداً سيختار الزواج من هند قدره وكتبه، فتقديره متأخر عن علمه تعالى بما سيختار زيد، وعليه فلا يتنافى القضاء والقدر مع حرية الإنسان واختياره. وهذا ما بنيته كلمات أهل بيت الوحي والعصمة عليهم السلام، فتذكر كتب الحديث أن رجلاً نهض لأمير المؤمنين عليه السلام بعد منصرفه من واقعة صفين فسأله عن القضاء والقدر، فما كان من الإمام عليه السلام إلا أن أجابه جواباً أودعه جميع هذه النقاط الدقيقة، معرضاً بالتفسيرات الخاطئة والاتجاهات المنحرفة التي تبلورت حول هذه العقيدة. فقد أورد الصدوق في كتابه التوحيد، قال: «دخل رجل من أهل العراق على أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرنا عن خروجنا الى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أجل يا شيخ، فوالله ما علوتم من تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلا بقضاء من الله وقدر. فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال عليه السلام: مهلاً يا شيخ، لعلك تظن قضاءاً حتماً وقدراً لازماً! لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم يكن على مسيء لائمة، ولا محسن محمدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب، والمذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأمة ومجوسها. ثم أردف الإمام عليه السلام موضحاً للشيخ: يا شيخ، إن الله عز وجل كلف تخييراً، ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً ولم يُطع مكروهاً ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار». كتاب التوحيد، باب القضاء والقدر، ح28، ص380.
لقد بلغ من فرحة الشيخ بجواب أمير المؤمنين عليه السلام أن أنشد ابياتاً في مدحه صلوات الله عليه، لإزاحته الغموض عن مسألة القضاء والقدر.
فوضح عليه السلام أن القضاء والقدر لا يعني ان الله تعالى قد كتب على الإنسان أفعاله من دون إرادة منه واختيار، وإنما المقصود أنه تعالى كتب القدر وقضاه لعلمه تعالى بأن الإنسان سيختاره، فعند الرجوع الى الآيات والروايات نلحظ كثافة تركيزها على نظام السببية الذي ينبسط في نظام التكوين ويعم الوجود برمته والإنسان والكون والحياة وكل عالم الممكنات، هذا النظام العام أقصد السببية هو ما اقتضته الحكمة الإلهية وأرادت سريانه كما ينم عن ذلك الحديث الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شئ سبباً.. الحديث. فكل شيء وكل معلول وحادث إذا ما أراد أن يوجد لابد أن يسبقه سبب خاص ولابد أن يكون لذلك السبب تقدير وحد معين حتى يُبت بوجوده. فالقدر معناه وضع حد معين للأسباب التي ستفضي الى الحادث المعلول وبعد اكتمالها يُبت ويقضى بحصوله، ومن الأسباب الرئيسية التي يتوقف عليها الحادث كفعل الانسان هو إرادة الفاعل واختياره، فإذا أراد واختار حصول الفعل قضى الله سبحانه أن يوجده ويفيضه.
وهذا هو جوهر نظرية القضاء والقدر والتي تنحل على أساسه إشكالية التعارض بين حرية الانسان واختياره وعقيدة القضاء والقدر المقتضية لكتابة الله تعالى كل ما يجري على الإنسان، بحيث لا يغدو هذا الايمان مع الفعل الإنساني كما في نظرية الاشاعرة، وانما يتحول الى محفز للإنسان على البذل المزيد من الجهد عبر اكتشاف قوانين الطبيعة، وإدراك العلاقات المنظمة لحياته.
وقد بين الأعلام هذه الحقيقة بأجلى صورة وأوضح بيان، فيقرر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ذلك ويقول: «فإنه كتب في سجل التكوين لا التشريع أن سيفعل كذا وأنه يختار كذا، لا كُتب عليه أن يفعل كذا وأن يختار كذا .. والفرق بين العبارتين كالفرق بين الحقيقتين في غاية الجلاء والوضوح. وقد أصبح اليوم من الجليات أن العلم لا أثر له في المعلوم وأن المعلوم يوجد بأسبابه وسلسلة علله لا بعلم العالم أو جهل الجاهل» الدين والإسلام، ص162.