الأربعاء 12 جمادى الأول 1446هـ 13 نوفمبر 2024
موقع كلمة الإخباري
السيد السيستاني ومنطق الدولة
حسن الهاشمي
الدولة الديمقراطية التي تلبي طموح الشعب في الاستقلال والحرية والرفاه والتقدم في إطار حفظ القيم والمقدسات التي تحافظ على كرامة المواطن ووحدة البلد، هذه الدولة لا يمكن ان تستقر وتزدهر الا بالتداول السلمي للسلطة، وشفافية عمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بما يخدم تطلعات الشعب في عيش آمن ومستقبل زاهر يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات.
2024 / 11 / 10
0

الدولة الديمقراطية التي تلبي طموح الشعب في الاستقلال والحرية والرفاه والتقدم في إطار حفظ القيم والمقدسات التي تحافظ على كرامة المواطن ووحدة البلد، هذه الدولة لا يمكن ان تستقر وتزدهر الا بالتداول السلمي للسلطة، وشفافية عمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بما يخدم تطلعات الشعب في عيش آمن ومستقبل زاهر يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات.

وما لم تتظافر الجهود الوطنية ولا سيما أولئك الذين بيدهم أزمة الأمور والنخب الواعية ومنظمات المجتمع المدني والرقابة الدولية على أداء المسؤولين في الدولة الناشئة ومن ضمنها بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) في الحفاظ على التجربة الديمقراطية وتطورها، فإننا نبقى نراوح مكاننا ان لم ننتكس الى الوراء بالانحدار وبشكل تدريجي الى مستنقع ديكتاتورية الأحزاب المتنفذة وخصوصا التي تمتلك أذرع مسلحة خارج نطاق الدولة، ويساعد على هذا الانتكاس التدخلات الخارجية وخرق القانون وانفلات الأمن وتفشي الفساد، وفي خضم هذه التطورات التي تعصف في بلادنا رحّب سماحة السيد السيستاني "حفظه الله" بحضور الأمم المتحدة في العراق وتمنى لبعثتها التوفيق في القيام بمهامها.

جاء ذلك في استقبال سماحته سعادة الدكتور محمد الحسان ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها في العراق (يونامي) والوفد المرافق معه يوم الاثنين 4/11/2024م ، وقد قدّم لسماحته شرحاً موجزاً حول مهام البعثة الدولية والدور الذي تروم القيام به في الفترة القادمة، وبدوره أكد سماحة السيد إلى التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق في الوقت الحاضر وما يعانيه شعبه على أكثر من صعيد، وقال إنه ينبغي للعراقيين - ولا سيما النخب الواعية - أن يأخذوا العِبر من التجارب التي مرّوا بها ويبذلوا قصارى جهدهم في تجاوز اخفاقاتها ويعملوا بجدّ في سبيل تحقيق مستقبل أفضل لبلدهم ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار والرقي والازدهار.

العراق حاليا على صفيح ساخن من الأحداث الداخلية والإقليمية والدولية، وبحاجة الى لجنة طبية حاذقة تستأصل الأورام القاتلة بكل دقة ومسؤولية وتفان واخلاص، ومن دون تلك اللجنة فان أعمالنا كسراب تتقاذفها الأهواء وتذروها المنافع والمغانم الداخلية والخارجية، وبعد مرور اكثر من عشرين عاما من الاخفاقات والسرقات والاضطرابات والتدخلات الاقليمية والدولية في الشأن العراقي، آن الأوان ان يلتفتوا الى أنفسهم ليحاسبوها، والى بلدهم ليصونوه، والى شعبهم ليخدموه، لينعم الجميع بالأمن والاستقرار والرقي والازدهار، وإلاّ ينهار البناء على الجميع ولات حين مندم.   

الفرق بين الديمقراطية الحقيقية والديمقراطية المزيفة واضح وجلي لا لبس فيه ولا غموض، هو نفسه الفرق بين منطق الدولة ومنطق اللادولة، قوة المنطق ومنطق القوة، واذا تبنينا الأولى وتنحينا عن الثانية، فانه لسنا قادرين على إصلاح أنفسنا فحسب، بل إصلاحها وإصلاح العالم برمته من براثن الظلم والجور والتعسف، ويتضح هذا المعنى أكثر، إذا عرفنا أن الإسلام قد أعطى للإنسان حقوقاً متعددة، تفوق بكثير تلك الحقوق التي وهبتها له الأنظمة الوضعية، والديمقراطية الحقيقية أحد هذه الحقوق وهي بمثابة الأرضية الصالحة لبروز الكثير من منابت الخير في المجتمع، وإذا ما أخذنا الشروط التي ينبغي توفرها في المجتمع الديمقراطي بنظر الاعتبار، فأنه سينبثق لنا مجتمع تكاملي تسوده المحبة والوئام، وتربطه روابط الثقة والاحترام المتبادل، فباستطاعة أي أحد أن يتبوأ أكبر مسؤولية في البلاد، شريطة أن تتوفر فيه المؤهلات الدينية والأخلاقية والعلمية ورضى الأمة به، ويتسم أفراد المجتمع الديمقراطي كذلك بالروح المتسامية، وسعة الصدر والتسامح والعفو عن المسيء والغفران له، ويمكن ملاحظة ثمار متعددة لهذا المجتمع، نلخصها في النقاط التالية:

1ـ حرية إبداء الرأي، وحرية الصحافة والنشر، وحرية تأسيس إذاعة وتلفزيون، ومواقع الكترونية ضمن شبكات الانترنيت، حيث الكل باستطاعته أن يبدي وجهة نظره، ويقوم بإسداء النصيحة للمسؤولين، ويقوم بعملية النقد البنّاء بكل حرية وشفافية، دونما ترهيب أو تهديد أو سجن أو إقصاء، شريطة أن يكون التحرك والنقد ضمن الإطار الإسلامي وضمن الأطر القانونية السائدة في البلاد.

2- المسؤول في النظام الديمقراطي يكون ملزماً باستشارة أهل الخبرة والرأي والاختصاص في الحقول الدينية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية وكلما يتعلق بمصير الأمة ومستقبلها- لا فرق في ذلك سواء كان الخبراء موافقين أم مخالفين لفكره ومنهجه - كل حسب اختصاصه وعلمه وخبرته، ليكون الرأي الذي يعزم عليه القائد بعد الاستشارة أقرب من الصواب فيما إذا قارناه بالرأي المنفرد المضطرب.

3- تنبثق عن الديمقراطية الحقيقية تشكيل الأحزاب والنقابات العمالية والتعاونيات ومؤسسات المجتمع المدني، التي تدافع عن القطاعات المختلفة للشعب، ويتم تبديد المال والإعلام والقدرة والإمكانات الخدمية الأخرى بينها، لئلاّ يجتمع المال والإعلام والقوة بيد شخص واحد أو حزب واحد، الذي يؤول بطبيعة الحال إلى الاستبداد ولو تغلف بغلاف الديمقراطية، وإلغاء الرأي الآخر بذرائع مختلفة وتبريرات جاهزة.

4- في ظل الديمقراطية يتم تفتق وظهور الكفاءات العلمية والعقول المتفكرة الخلاقة على أرض الواقع، وتبوؤها مراكز حساسة في الدولة بدلا من الوساطات والمحسوبيات والانتماءات الحزبية الضيقة، التي عادة ما نراها في الأنظمة الاستبدادية حيث تدفع إلى السلطة أفراد متملقين متزلفين تسيرهم الأهواء والمصالح، وتتجاذبهم رياح التملق والانحناء.

5- الإيثار والتعاون والمواساة، هذه المفردات تكون رائدة في أوساط المجتمع الديمقراطي الرائد، وهي بمثابة محطة معنوية عظيمة تضخ الإنسان نفحات خلاّقة، تكون ذا أثر بالغ في سموه وتعاليه وتحلقه في سماء الفضيلة والقيم والمقدسات.

6- إذا ما أضحت الاستشارة صفة لازمة للمؤمنين، فإنها تقوم بدور الهداية لأرشد الأمور وأحسنها في حياتهم اليومية، فالمرء لا يقوم بأي عمل ولا يقدم على أي شيء إلاّ بعد استشارة أهل الخبرة والفضل والعلم، وبذلك تتلاشى الأخطاء وتردم الفجوات وتزال العقبات أمامه، ويهتدي إلى سبل الرشاد والفلاح والنجاح.

7- عادة ما نشهد في ظل الديمقراطية قفزة نوعية في المجال العلمي والثقافي والاجتماعي والصناعي والتكنولوجي، حيث أن الأجواء مفتّحة، والإمكانات متاحة، والتسهيلات متوفرة للجميع، لا أنها حكر على فئة حزبية معينة أو عائلة مالكة أو ثلة متملقة للزعيم الأوحد، وهذه الصفات نراها جلية واضحة في معظم الأنظمة المستبدة، وما يعقب ذلك من تخلف وجهل وتبعية واندثار.

8- الديكتاتورية إذا ما عشعشت من شأنها أن تلغي العقول، وتحكم العقل الأوحد، ولا ضير أن يستشير الحاكم المستبد، ولكن استشارته تكون منصبّة لدعم حكمه وسلطانه، وليس لصالح المجتمع وتطوره، وهذا ما يخلق وضعاً كارثياً لا يعرف مداه إلاّ الله سبحانه والراسخون في العلم، ولهذا جاء الرفض القاطع من قبل الشريعة والعقل السليم- لكل أشكال الاستبداد مهما كانت مسوغاته ومهما كانت تبريراته ودوافعه.

9- من أبرز مصاديق الديمقراطية الانتخابات، فهي إشراك الأمة في انتخاب الحكم الذي تريد والحاكم الذي يدبر أمرها، فهي معه مادام يعمل على تحقيق العدالة والأهداف التي تؤمن بها، وإذا ما حاد عنها فانه يقع لا محالة تحت مطرقة المسائلة والمحاسبة وحتى المعاقبة إذا تطلب الأمر ذلك.

10- يتمخض عن الديمقراطية والانتخابات حكم الأكثرية، مع احترام الأقليات الدينية والإثنية والقومية التي تعيش ضمن المجتمع الإسلامي، وتمثيلها في مجالس اتخاذ القرار المختلفة بما يتناسب مع تركيبتها السكانية والثقافية في البلاد.

لهذا فان السيد السيستاني أكد على أن ذلك لا يتسنى من دون إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد اعتماداً على مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنّم مواقع المسؤولية، ومنع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد على جميع المستويات، ولكن يبدو أن أمام العراقيين مساراً طويلاً الى أن يصلوا الى تحقيق ذلك، أعانهم الله عليه. 

التعليقات