السبت 9 ذو القِعدة 1445 هـ 18 مايو 2024
موقع كلمة الإخباري
جريمة الزنا بين الشريعة والقانون الوضعي
حسن الهاشمي
2024 / 05 / 04
0

العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس التقوى والعمل الصالح هي العلاقات الوطيدة التي تحفظ للمجتمع الانساني كرامته وعزته وشموخه، أما إذا ما ابتنت على أساس المنافع المادية والإباحية في تلبية الرغبات الجنسية فإنها لا محالة تنهار في وحل الخيبة والخسران، إذ إن القوانين الطبيعية التي تحكمنا طبقا للإرادة الإلهية هي التي تقتضي السير وفق منهج السماء، وطالما لمسنا كيف أنه يلبي احتياجات الانسان المادية والمعنوية ويأخذ بيده إلى سلم النجاح والكمال، أما إذا ما قرر الانسان أن يسلك منهجا مغايرا لمنهج السماء في التعاطي إزاء النوع البشري وفقا لأهدافه ورغباته ونزواته فإنه بمثابة من يهشم نفسه والطريق الذي يمشي به، وأن يكون وبالا على نفسه والآخرين، ولا يجني وقتذاك سوى الندم ولات حين مندم.

وتبعا لذلك فمن يطرق الابواب غير الشرعية في تلبية رغباته الجنسية، تتراكم عليه المصائب والمتاعب، وتهجم عليه الأمراض والأسقام، ويرتع في مستنقع يلفه الضنك والحرمان، وإذا ما ابتلي بكل ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فإنها الآثار الوضعية تعصف بكل من طرق أبواب الزنا واللواط والسحاق والعادة السرية وكل ما من شأنه أن يلبي الشهوات بطرق غير شرعية، ناهيك عن العقاب الأخروي لمرتكبي هذه الموبقات فإنه أشد وأخزى لاسيما لأولئك الذين يرحلون عن هذه الدنيا من دون توبة وإنابة إلى الله تعالى، هذه هي سنة الحياة، من أراد العزة والكرامة والتوفيق ما عليه إلا أن يسلك طريق الهدى والاستقامة، ومن أراد الذل والهوان التعس، فإنه يسلك مسالك الشيطان والهوى الذي يوقعه في متاهات هو في غنى عنها وعن تداعياتها الخطيرة.

فالغيرة والحفاظ على الأنساب يحتم على الفرد أن يكتفي بحلاله من الناحية الجنسية وغض البصر عن محارم الناس، ومن طرق باب الناس طرقت بابه كما يقولون، وباستطاعة الرجل والمرأة أن يلبيا احتياجاتهما الجنسية وهي في أوجها ـ أي في مرحلة المراهقة والشباب ـ بالطرق المشروعة كالزواج والابتعاد عن الطرق غير المشروعة كالزنا والسفاح واللواط، وطالما علمتنا التجارب أن تلبية الرغبات الجنسية بالحلال يجلب للإنسان راحة الضمير والاطمئنان والاستقرار النفسي والجسدي بخلاف تلبيتها بالطرق المحرمة فإنها وإن كانت تطفئ أوار الجنس في برهة من الزمن ولكن تداعياتها الاجتماعية والنفسية والصحية خطيرة، وكما أن العائلة المتماسكة والعفة والسداد مطمح كل غيور وشريف، فإنني لا أجافي الحقيقة حينما أقول أن التشرذم العائلي والفضيحة والتخبط لا يقبل به الإنسان بما هو إنسان لا سيما الذي يريد الحفاظ على انسانيته ويحترم ذاته وعقله وحيثياته الاجتماعية، فالشرف نبل انساني مطلوب، والفجور محطة متدنية تأباها النفوس الأبية، وهذا ما يقره العقلاء النبلاء ناهيك عن التقويم الديني في السلوك البشري.

اعتبرت الشريعة الغراء جريمة الزنا من أبشع الجرائم التي تخدش كيان الأسرة التي هي المرتكز الأساسي للمجتمع، وبالتالي رتبت على من يقترفها الحد الصارم وهو رجم الزاني المحصن بالحجارة حتى الموت وللبكر مئة جلدة بعد الإقرار أو الشهادة كما سيأتي، ردعاً وزجراً له ولكل من تسوّل له نفسه ارتكاب تلك الشانعة.

وفي البداية نريد التعرف على جريمة الزنا أركانها والعقوبة المترتبة في حق من يقترفها في الشريعة الإسلامية، اتفق فقهاء الشريعة على أن الزنا هو الوطء المحرم المتعمد، ومنه يستفاد أن جريمة الزنا تقوم على ركنيين هما:ـ

1ـ الركن المادي ( الوطء المحرم) .

2ـ الركن المعنوي (القصد الجنائي) .

ويعتبر الوطء محرما، إذا كان في الفرج، بحيث يكون الذكر في الفرج كالميل في المكحلة ويكفي لاعتبار الوطء زنا تغيب الحشفة (أو مثلها) على الأقل في الفرج، والقاعدة العامة هي أن الوطء المحرم المعتبر زنا هو ما كان في غير ملك (نكاح أو تمتع) . وما لم يكن على هذه الصفة فلا يعد زنا يقام به الحد، كالمفاخذة (الإيلاج بين الفخذين بعيدا عن الفرج) والعناق والتقبيل والخلوة بالأجنبية والنوم معها في الفراش، هذه الأفعال وان عدت من مقدمات الزنا وقد تؤدي إليه إلا أن فاعلها يعزر على ارتكابها لكونها أفعالا محرمة شرعاً وتشكل جرائم تامة وليست شروعاً في زنا.

ويذهب كثير من أهل العلم أن الوطء في الدبر كالوطء في القبل يعتبر زنا موجب للحد سواء كان الفعل واقعاً على ذكر أو أنثى.

والركن المعنوي (تعمد الوطء) وهو أن يتوفر لدى الزاني أو الزانية نية العمد كأن يعلم الزاني انه يزني بامرأة لا تحل له، أو أن تمكن الزانية رجلا من نفسها وهي تعلم انه محرّم عليها، ومتى توافر هذان الركنان بلا شبهة وجب إنزال الحد بشروطه.

عقوبة الزنا:

أولا: عقوبة البكر

رتبت الشريعة عقوبة الجلد على الزاني البكر رجلا كان أو امرأة، لقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) النور: 2. والجلد كما هو معلوم عقوبة حدية وليست تعزيرا وليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد ولا يوقف تنفيذها كما لا يملك ولي الأمر حيالها العفو أو التعديل.

ثانياً: عقوبة المحصن

شددت الشريعة عقوبة المحصن فجعلتها الرجم باتفاق جميع العلماء، وللمحصن شروط لتوافر عقوبة الرجم بحقه وهي الوطء (الإيلاج في القبل) في نكاح صحيح والكمال في كل منهما (البلوغ، العقل، الحرية).

وفي الشهادة نصاب خاص استلزمته الشريعة وهي الإقرار على النفس أربع مرات أو شهادة أربعة شهود عدول لقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لهلال بن أمية عندما قذف زوجته بالزنا: (البينة وإلا فحد في ظهرك، فقال: يا رسول الله أيجد أحدنا مع امرأته رجلا يلتمس البينة؟ فجعل النبي يقول: البينة وإلا فحد في ظهرك، فأخبر (ص) ان الحد واجب عليه حتى يقيم البينة، فثبت أن قذف الزوج لزوجته موجب للحد) الخلاف للشيخ الطوسي، ج5 ص6. ويمتنع التنفيذ برجوع المقرر في إقراره أو عدول الشهود بعضهم أو كلهم عن الشهادة أو بطلان أهلية احدهم.

يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا* إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الفرقان: 68 ـ 70.

من صفات عباد الرحمن، التوحيد الخالص، وطهارتهم من التلوث بدم الأبرياء ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، وانهم لا يزنون.

إنهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان، فينتخبون الإيمان، وعلى مفترق طريقين الأمان واللا أمان في الأرواح، فهم يتخيرون الأمان، وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث: فهم يتخيرون النقاء والطهر، إنهم يهيئون المحيط الخالي من كل أنواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهم واجتهادهم.

ومن الملفت للنظر في الآية أعلاه، أنها بحثت أولا في مسألة الشرك، ثم قتل النفس، ثم الزنا، ويستفاد من بعض الروايات أن هذه الذنوب الثلاثة تكون من حيث الأهمية بحسب الترتيب الذي أوردته الآية، لذا يقول تعالى: يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا.

ويتجسد هنا سؤالان:

الأول: لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من الأشخاص؟ ولماذا لا يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل ينسجم هذا مع أصول العدالة!؟

الثاني: إن الكلام هنا عن الخلود في العذاب، في حين أن الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط، والذنب الأول من هذه الذنوب الثلاثة التي ذكرت في الآية يكون كفرا، فقط، وأما قتل النفس والزنا فليسا سببا للخلود في العذاب.

بحث المفسرون كثيرا في الإجابة على ما طرح، وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل، فتكون العقوبات بمجموعها عذابا مضاعفا، فضلا عن أن ذنبا ما يكون أحيانا مصدر الذنوب الأخرى، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.

ومن الملفت للنظر هنا - فضلا عن مسألة العقوبات العادية - عقوبة أخرى ذكرت أيضا هي التحقير والمهانة، أي البعد النفسي من العذاب، وقد تكون بذاتها تفسيرا لمسألة مضاعفة العذاب، ذلك لأنهم يعذبون عذابا جسديا وعذابا روحيا.

لكن القرآن المجيد كما مر سابقا، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي، الآية التالية يقول تعالى هكذا: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما.

ففي الوقت الذي ذكرت ثلاثة ذنوب هي من أعظم الذنوب، تركت الآية باب التوبة مفتوحا أمام هؤلاء الأشخاص، وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله، بشرط أن تكون توبته حقيقية، وعلامتها ذلك العمل الصالح (المعوض) الذي ورد في الآية، وإلا فإن مجرد الاستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب لا يكون دليلا على التوبة أبدا.

المسألة المهمة فيما يتعلق بالآية أعلاه هي: كيف يبدل الله " سيئات " أولئك " حسنات "؟ هنا عدة تفاسير، يمكن القبول بها جميعا:

1 - حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله، تتحقق تحولات عميقة في جميع وجوده، وبسبب هذا التحول والإنقلاب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلا للنفس المحترمة في الماضي، فإنه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانيا، فإنه يكون بعدها عفيفا وطاهرا، وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.

2 - أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات.

3 - المقصود من السيئات ليس نفس الأعمال التي يقوم بها الإنسان، بل آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه، وتبدل بآثار الخير، وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات.

ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة قطعا، ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثلاثة في مفهوم الآية، فالتوبة وترك الذنب ينبغي ألا تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي - إضافة إلى ذلك - أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى الله تبارك وتعالى؛ لهذا فإن ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثلا، وإن كان حسنا، لكن القيمة الأساس لهذا الفعل لا تتحقق إلا إذا استمد من الدافع الرباني. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ١١ - الصفحة ٣١٨

أوردنا هنا بشكل موجز المعالجة الاسلامية لجريمة الزنا، أما المعالجة الغربية فانه وبعد الثورة الصناعية في اوربا فقد نحت القوانين الوضعية الغربية ومن نقل عنها من بعض البلدان الإسلامية منحى أباح الزنا في صور معينة ولم يرتبوا عليه أي عقاب؛ باعتباره من الأمور الخاصة التي لا تمس مصالح المجتمع واعتبروا التراضي به مانعاً للعقاب عليه، وحصره في صور أخرى، مما أدى إلى تفكك الأسرة وانتشار أبناء الزنا وإحجام الناس عن الزواج لأنهم يستطيعون قضاء وتفريغ شهواتهم بعيداً عن مؤسسة الأسرة.

من القوانين الوضعية من ترى أن الزنا يعتبر من موجبات الحرية وهو لا يعد جريمة إلا إذا اقترن بعنف، فليس كل وطء محرم أو مواقعة زنا، ومن القوانين من يقصر الزنا على المواقعة التي تحصل من المتزوجين فقط ولا تعتبر ما يقع من مطلقة أو أعزب زنا ولا عقاب على المواقعة إلا في حالة اخذ المجني عليها بالعنف أو إذا كان الرضا بالمواقعة معيباً بان كانت المجني عليها اقل من ثمانية عشر عاما، ويكيف الجرم بأنه جنحة بسيطة تستوجب الحبس والغرامة.

أيهما أقرب إلى حفظ الأنساب والروابط الاجتماعية المتينة؟! وأيهما أجدى بالمعالجة الموضوعية لآفة الزنا وتداعياتها الخطيرة؟! الحكم الإسلامي أم الحكم الوضعي؟! المتتبع المنصف وبعد الاطلاع على أدلة الطرفين يصل إلى أن المعالجة الاسلامية وإن كانت قاسية بشأن الذين يقترفون هذه الموبقات، بيد أن نتائجها طيبة وثمارها مفيدة وظلالها وفيرة، ليس للفرد والأسرة فحسب بل للمجتمع الإنساني برمته، إذ أن الغرب وبعد أن أطلق العنان للفرد بإشباع غرائزه الجنسية خارج إطار الزواج والأسرة، يعاني اليوم من التفكك الأسري والتشرذم الاجتماعي والخطر الوبائي وما يستتبعه من آثار وخيمة تعاني منها المجتمعات المادية، ومن تداعياتها فقدان رب الأسرة السيطرة على الزوجة والأولاد، وهذا يؤدي بدوره إلى اضعاف العلاقات الودية فيما بين الأهل والأقارب، وهو ايذان بانهيار الركيزة الأهم في تقويم الروابط الأسرية، ألا وهي ركيزة صلة الرحم، إذ أنها تتلاشى أو تكاد في أوساط المجتمع المادي.

وطالما نشاهد فتور في العلاقات الاجتماعية الغربية حيث لا تزاور ولا تراحم ولا تواصل ولا توادد بين الأفراد والأسر، نعم قد توجد ضمانات اجتماعية وصحية من قبل الدولة المادية لأهل البلوى وكبار السن، بيد أنها مساعدات جوفاء تكاد تكون خالية من العطف والرعاية والاحترام التي طالما يتوخاها المسن والمريض أكثر من غيره وهو يعيش لحظات صعبة من حياته المريرة، فالحالات النفسية وبما تضفيه على المسن والمريض من سكينة ووقار وراحة واطمئنان، لا يمكن رؤيتها إلا بالمعالجة الاسلامية، فهي اضافة إلى ذلك تقضي على آفة الزنا من جذورها وما يطفح منها من جفاء وبلاء وخواء، مهيئة بذلك الأرض الخصبة لبزوغ وشيوع الزواج والعلاقات الحميمة وما تحمل بين طياتها معاني الحب الصادق الذي تتضوع منه المودة والرحمة، لما لها الأثر البالغ في استجلاب الرحمة الإلهية في نزول الغيث وايناع الشجر وانضاج الثمر والعيش الكريم بلا ملل أو ضجر.



التعليقات