الجمعة 8 ذو القِعدة 1445هـ 17 مايو 2024
موقع كلمة الإخباري
من أين لك هذا... خيال أم حقيقة؟!
حسن الهاشمي
كاتب وصحفي عراقي
2024 / 05 / 02
0

تطبيق مبدأ من أين لك هذا؟! والبدء بالتنمية المستدامة والرفاه الاقتصادي للبلاد، هما المفتاح الرئيسي لحل مشاكله والانتقال به من الحالة التي نعيش بها الآن الى حالة دولة المؤسسات التي تؤسس لبناء قواعد رصينة في النظام الديمقراطي المتكامل، ما زال معظم السياسيين الذين تصدوا للمشهد السياسي في العراق منذ سقوط الصنم عام 2003م لحد هذه اللحظة يعرقلون أسس البناء الصحيح لتلك القواعد التي عليها المعوّل في انجاح العملية الديمقراطية في العراق، ويبدو ان الكلام في تطبيق مبدأ (من أين لك هذا) من دون تحقيق تلك القواعد أشبه ما يكون هواء في شبك، وجعجعة بلا طحين، ويمكن الاشارة الى أهم تلك القواعد بما يلي: 

1ـ بناء المؤسسات الدستورية التي تنظّم شؤون البلد، إذ ان النظام الديمقراطي الحقيقي يتمحور حول الدستور حيث تمارس الحكم ثلاث سلطات أساسية وهي: التنفيذية والتشريعية والقضائية، كما لا يقتصر المجتمع الديمقراطي السليم على هيئات الحكم وحسب، إنما يضم عدداً من القوى الفاعلة أهمها: الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والإعلام.

2ـ الشفافية في التعامل مع كافة مؤسسات الدولة، وتعتبر الشفافية من المفاهيم الإدارية الحديثة، فهي تعني تقاسم المعلومات والتصرف بطريقة مكشوفة، وتعد الشفافية سواء الداخلية أو الخارجية مسألة محورية في عملية التنمية حيث تعمل على تحقيق الديمقراطية والمساءلة، وتأكيد حق المواطن في المشاركة، وتساهم بدور فعال في مكافحة الفساد والحد منه. 

3ـ العدالة في توزيع المناصب والايرادات على كافة شرائح المجتمع مع حفظ الألقاب العلمية للخبراء وأهل الاختصاص كل حسب اختصاصه، فمن جعل العدلَ أساسَ ملكِه قويت شوكته وعظمت دولته وإن كان كافرا، ومن جعل أساس دولته الظلم وتضييع الأمانة وإهدار الحقوق انهارت هيبته وتقوّضت دولته، وإن كان مسلما، أما اذا اجتمعت العدالة مع الايمان، فانه نور على نور، يمكن من خلاله بلوغ الحضارتين المادية والمعنوية في ازدهار العمارة والرفاه المادي مع حفظ القيم والمقدسات والفضائل الاخلاقية الرائدة.

4ـ الحرية الاقتصادية حسب القوانين النافذة التي توفر البيئة المناسبة في تداول رأس المال بشكل آمن للأفراد والمؤسسات، مما يحد من آفة الاستيراد وينعش الانتاج المحلي والتصدير، فالإسلام حينما أعطى كل إنسان حريته الاقتصادية واحترمها بشكل كامل، منعه في نفس الوقت عن مزاولة مجموعة من الأعمال التي تؤدي إلى الضرر على المجتمع، كالربا والاحتكار والمتاجرة ببيع اللحوم المحرمة وبيع الخمور و… وهو بذلك أعطى حدوداً للحرية الاقتصادية ولم يجعلها سائبة ومطلقة بلا قيود او حدود.

5ـ حصر السلاح بيد الدولة؛ وهو أحد الشروط الرئيسية لضمان هيبة الدولة وسيادتها وقدرتها على تأمين إنفاذ القانون، مما يساعد في جذب الاستثمارات الداخلية والخارجية والاسهام في تحريك عجلة الاقتصاد لاسيما في مجالات الطاقة والزراعة والصناعة؛ لما له بالغ الأثر في توفير فرص العمل وامتصاص البطالة وتوفير الحياة الحرة الكريمة لكافة شرائح المجتمع. 

قلنا ان تطبيق هذا المبدأ يعتمد على هذه القواعد الخمسة وجودا وعدما، تطبيقها يعود بالنفع على العباد والبلاد ويتم من خلالها الولاء للوطن لا للغير مع تقليل الفوارق بين المسؤول والمواطن، وعدم تطبيقها يعود بالنفع على المسؤول ومن ورائه أجندات داخلية وخارجية مع فوارق جسيمة بين حياة المسؤول وحياة المواطن، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة من السقوط أيهما متحقق على أرض الواقع، التطبيق أم عدم التطبيق؟!.   

العراق بلد القيم والمقدسات، حباه الله تعالى بالخير والبركات، وأنعم على أهله بنعم جمة ما لم ينعم بها الكثير من الدول والبلدات، وخيرات العراق لا تغطي احتياجات شعبه فحسب، بل تعمه وتعم بقية الدول والقارات، ومن المؤسف أن نرى جائعا بلا طعام أو مريضا بلا علاج أو عريانا بلا كساء أو مشردا بلا مأوى، في بلد يعد من أغنى بلدان العالم على الاطلاق، وكنا نأمل وجميع المخلصين من أبناء هذا الوطن الغالي أن يتنفس الشعب الصعداء يعيش في دولة كريمة بعد سقوط الصنم، ولكن ما حصل مخيّب للآمال، ولا يلبي طموح الأمة في العيش الرغيد في بلد آمن ومستقر ومتطور، ولو طبّقنا قواعد انجاح العملية الديمقراطية بحذافيرها، وفعّلنا قانون (من أين لك هذا) على جميع موظفي الدولة العراقية دون محاباة لأحد على حساب الآخرين، لكنّا في حال أفضل بكثير من حالنا في الوقت الراهن، الذي توسّعت الهوة بين المسؤول والمواطن، وما يؤول اليه من قلة الخدمات وانتشار الفساد في كل مفاصل الدولة العراقية.  


جميع المسؤولين في العراق ولا سيما بعد سقوط الصنم عام 2003م ينحنون اكبارا واجلالا للإمام علي عليه السلام، فأهل السنة والجماعة يعتبرونه الخليفة الرابع، والأكراد يعتبرونه الرائد في الانسانية والعدالة، وأتباع أهل البيت يعتبرونه إماما مفترض الطاعة، ولكنّهم هل يعلمون أن الامام علي (عليه السلام) كان يقول: (يا أهل الكوفة! إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن. وكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة من ينبع) المناقب لابن شهر آشوب: ٢ / ٩٨.  نحن لا نقول أنكم تقدرون على الزهد والنزاهة الفريدة من نوعها على مدى الدهور، حتى الامام يقول: (ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به، ويستضئ بنور علمه، ألا وأن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة (وهي التي عقر ظهرها فقل أكلها)، ولهي في عيني أوهى من عفصة مقرة (العفصة: شجرة البلوط وهو دواء قابض، والمقرة: المر)) شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٦ - ص ٢٠٥.

نعم انكم لا تقدرون على ذلك، ولكنكم كنتم تقدرون على الاكتفاء ببيت لائق وبراتب معتدل وبسيارة جيدة، وتوزعون الباقي من خيرات العراق على أهله وتقضون على بؤر الفساد والجهل والفقر والتخلف، وتنهضون بالبلد الى مصاف البلدان الديمقراطية المتقدمة، ولو فعلتم ذلك لكنتم مصداقا لقوله (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية... إن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية) تحف العقول للحراني : ١٢٨. ولكن مع بالغ الأسف قد حليت الدنيا في أعين أغلبكم وراقكم زبرجها فتضخمت أموالكم وطرقتم أبواب الكسب غير المشروع، فازدادت هوة العيش بينكم وبين الشعب المغلوب على أمره فكنتم على نقيض ما تأمّله امير المؤمنين فيكم، فبأعمالكم المشينة تلك قد قوّضتم أساس العدل وضربتم أسفين الفراق بينكم وبين الرعية، ولو كان العدل وما يرشحه من مودة بين المسؤول والرعية لبان، وبما ان هناك شق بينهما فلا عدل ولا مودّة في البين. 

علما ان مبدأ (من أين لك هذا) الذي يتعلَّق بالأصل بالمُوظفين والمُكلَّفين بخدمةٍ عامةٍ جميعاً مسؤولين وغير مسؤولين؛ قد أقره البرلمان العراقي امتثالاً لأحكام المادة (16/ثانياً) من قانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع رقم (30 لسنة 2011) المُعدَّل؛ التي أوجبت لأجل تكليفهم بتقديم الكشف عن ذممهم الماليَّة أن يكون ذلك بناءً على إخبار مقترنٍ بأدلةٍ معتبرةٍ بحدوث زيادةٍ في أموالهم أو أموال أزواجهم أو أموال أولادهم لا تنسجم مع مواردهم الاعتياديَّة، بالإضافة إلى المسؤولين المُكلَّفين بالأصل بتقديم إقرار الذمَّة الماليَّة بموجب المادة (16/ أولاً) من قانون الهيئة.

يشار الى أن قانون الهيئة النافذ ألزم رؤساء وأعضاء مجالس المحافظات المنتظمة في إقليم وغير المنتظمة في إقليم والمحافظين ونوابهم ومعاونيهم ومؤسسي ورؤساء الأحزاب السياسية بتقديم إقرار بذمتهم المالية، فضلاً عن منحه الهيئة صلاحية تكليف أي تنظيم سياسي أو منظمة غير حكومية لإثبات مشروعية مصادر التمويل والتبرع وأوجه الانفاق وفقاً للقواعد المتبعة في الصرف مع مراعاة أنظمتها الداخلية.

ولأجل انفاذ القانون فان حملة (من اين لك هذا) قد انطلقت في العاشر من نيسان عام 2023م للإبلاغ عن تضخُّم الأموال والكسب غير المشروع في قطاعات مُؤسَّسات الدولة المختلفة والتي بدأت بقطاع الضرائب مروراً بالكمارك ووزارات الداخليَّة والنفط والدفاع والتربية وغيرها.

وحملة الهيئة هذه تقع ضمن واجباتها في منع الفساد ومُكافحته، واسترداد أموال الشعب المسروقة والمنهوبة من قبل الفاسدين، إذ فتحت حسابين في مصرف الرافدين بالدينار العراقي والدولار الأمريكي؛ من أجل إيداع المبالغ المُستردَّة التي تُمثلُ عائدات ومُتحصّلات الفساد.

والسؤال الذي يطرح هنا بقوة هل ان الساسة في البلاد وبعد تجربة العشرين سنة الماضية من سقوط الصنم وفي نظر الامام علي عليه السلام هل هم من الخائنين أم من الأمناء؟! ما نرى على أرض الواقع هو الذي يجيب على هكذا تساؤل، وكلنا أمل بان المخلصين في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ان يفعّلوا مبدأ (من أين لك هذا) بعد تطبيق قواعد الحكم الديمقراطي في البلاد على الجميع ومن دون محاباة لمسؤول أو حزب أو جهات داخلية أو خارجية، ويحوّلوا هذا المبدأ العظيم من خيال يردده الواهمون الى واقع يعيشه المخلصون من أبناء جلدتهم.

التعليقات