علي المدن
يدور نقاش واسع بين الكثير من النخب الأكاديمية حول فهم الأساس الذي تقوم عليه مواقف المرجع السيستاني من الأحداث الجارية في العراق؟ ما هو منطقه ومنطلقاته؟ هل يتحرك السيستاني بدافع أخلاقي أم بدافع براغماتي؟ هل يفكر بالتشبث بدوره الديني كسلطة عليا مهمتها حماية المؤمنين بها أو يريد الحفاظ على هيبته الدينية ومكتسبات المؤسسة الحوزوية التي حصلت عليها في المرحلة السابقة؟
في مقابل هذا النقاش الأكاديمي نرى الشارع العراقي، وفي بعض لحظاته، أكثر إحباطا من موقف المرجعية! وهذا ما عبّرت عنه بعض مقاطع الفيديو التي هتف فيها بعض المتظاهرين (نموت عشرة، نموت مية، ما يهمها المرجعية)!!!
والسؤال هنا: هل ثمة منطق آخر، غير ما تقدم، يمكننا فهم موقف المرجعية على أساسه؟ في تقديري نعم، وهذا ما أشرت له قبل أكثر من عام حين علّقتُ على موقف المرجعية من احتجاجات البصرة عام 2018 والفرق البارز الذي لاحظناه وقتها بين الخطبتين 20 – 8 – 2018 و 27 – 8 – 2018. سوف لن آخذ بنظر الاعتبار تلك المعطيات الدولية والإقليمية والداخلية التي قد تكون المرجعية مطلعة عليها وتؤثر في شكل موقفها المعلن، وأكتفي بعرض المنطق الذي ترسم المرجعية موقفها وفقا له كما مبيّن في فكرها السياسي في الأبحاث الفقهية للسيستاني والبيانات الصادرة عنه.
إن السمة الأبرز في موقف المرجع السيستاني في الشؤون السياسية هي واقعيته، بمعنى أنه يعلق موقفه في جميع القضايا المتصلة بالسياسة على الإرادة الشعبية الحرة للمواطنين. وعلى عكس ما دأب عليه الفقهاء في العصور المتأخرة من القول بالولاية العامة للفقيه النافذة على المؤمنين والملزمة لهم لا ير السيستاني للفقيه من دور سياسي إلا بما يسمح به (ويختاره) هؤلاء المؤمنين / المواطنين. فإن لم يكن الفقيه منتخبا لدور سياسي معين فإنه لا يملك التخويل “الشرعي” للعب هذا الدور، وغاية ما يمكنه فعله حينئذٍ هو تقديم النصح والتوجيه دون أن يكون ملزما لأحد بتلك النصائح والتوجيهات.
من الواضح أن هذا الفهم الفقهي لدور الفقيه ليس هو الفهم السائد الذي اعتاد سماعه الجمهور الشيعي، ولكن السيستاني يميز بين الشيعة كجماعة دينية عاشت تاريخيا داخل الدولة، ومنفصلة عنها، ترتبط روحيا وتشريعيا وسياسيا بالفقهاء، والشيعة كمواطنين أحرار مرتبطين بدولتهم ومندمجين بمجتمعهم المحلي. في الحالة الأخيرة، وهي الحالة التي يستمد فيها النظام السياسي شرعيته من إرادة الشعب، قد يكون للفقيه تأثيره في الرأي العام، ولكنَّ هذا الفقيه غير ملزم شرعاً بصناعة هذا الرأي العام وتوجيهه وإملاء خياراته عليه. هذا على الأقل هو ما يلتزم به شخصيا المرجع السيستاني، ولذا نراه ينتظر موازين القوى على الأرض وتفاعلها وتدافعها ليحدد بعد ذلك ما يجده مناسبا في المبادرة والاصطفاف. نعم، هو يصطف مع الشارع، (وتعبير خطبة الجمعة: المرجعية لا تنحاز إلا للشعب)، ولكن ليس بتحفيز داخلي منه، وإنما بعد أن يختار الشارع ذلك طواعية وعن سابق إصرار. إن السيستاني هنا يموضع نفسه كـ”لاحق” لرأي الجمهور السياسي، يكتفي بالتوجيه والنصح والترشيد ولكنه لا يحسم اصطفافه إلا بعد أن يفعل الناس ذلك. دون ذلك فإنه لا يرى لنفسه مخولا أو له الحق شرعا بالتدخل المباشر.
انطلاقا من هذا الشرح لرؤية المرجعية المعاصرة لا ينبغي مطالبة المرجعية بأي موقف سياسي غير الحماية والدعم لما يختار الشعب، وإذا ما أراد الشعب موقفاً داعما أقوى فإن الواجب عليه قبل ذلك تطوير أساليبه في التعبير عما يريده. إنها المرة الأولى التي يمارس الجمهور الشيعي لعبة الحكم والإدراة كفاعل سياسي ناضج ويفترض به أن يعتاد ذلك وينهض به.